مقدمة الكتاب
هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله صلى الله عليه واله فأكثر حتى أفرط وروت عنه صحاح الجمهور وسائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً، ولا يسعنا ازاء هذه الكثرة المزدوجة إلا أن نبحث عن مصدرها لاتصالها بحياتنا الدينية والعقلية اتصالا مباشراً ولولا ذلك لتجاوزناها وتجاوزنا مصدرها الى مايغنينا عن تجشم النظر فيها وفيه.
ولكن اسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدّين واصوله فاحتج بها فقهاء الجمهور ومتكلموهم في كثير من أحكام الله عزوجل وشرائعه ملقين اليها سلاح النظر والتفكير.
ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على اصالة العدالة في الصحابة أجمعين.
وحيث لادليل على هذا الاصل (كما هو مبين في محله بايضاح) لم يكن لنا بد من البحث عن هذا المكثر نفسه وعن حديثه كماً وكيفاً لنكون على بصيرة فيما يتعلق من حديثه بأحكام الله فروعا واصولا وهذا ما اضطرنا الى هذه الدراسة الممعنة في حياة هذا الصحابي (وهو أبو هريرة) وفي نواحى حديثه وقد بالغت في الفحص وأغرقت في التنقيب حتى أسفر وجه الحق في كتابي هذا وظهر فيه صبح اليقين والحمد لله رب العالمين.
وأما أبو هريرة نفسه فنحيلك الآن في تاريخ حياته وتحليل نفسيته على ما ستقف عليه في الكتاب؛ إذ مثلناه بكنهه وحقيقته من جميع نواحيه تمثيلا تاماً تدركه بحواسك كلها والحمد لله على التوفيق.
وأما حديثه فقد أمعنا النظر فيه كمأ وكيفاً فلم يسعنا ـ شهد الله ـ إلا
الانكار عليه في كل منهما، وقد سبقنا الى ذلك معاصروه كما ستقف عليه في محله (1) ان شاء الله مفصلا.
وأى ذى روية متجرد متحرر يطمئن الى هذه الكثرة لا يعدلها المجموع من كل ما حدث به الخلفاء الاربعة وأمهات المؤمنين التسع والهاشميون والهاشميات كافة كما فصلناه في الأصل (2).
وكيف تسنى لأمى (تأخر اسلامه فقلّت صحبته) أن يعى عن رسول الله صلى الله عليه واله مالم يعه السابقون الأولون من الخاصة وأولى القربى.
ونحن حين نحكم الذوق الفنى والمقياس العلمى نجدهما لا يقران كثيراً مما رواه هذا المفرط في اكثاره وعجائبه.
فان للسنة في حكمتها وأساليبها وخصائصها ميزاب يعرفها أولوا الألباب والاذواق الفنية وأهل الاختصاص من علماء البلاغة.
فما يسمعوه أو يقرؤوه منها يجدوه متميزاً في أذواقهم ومقاييسهم بوضوح واعلان ويجدوا سماته وشاراته متميزة في غير شك ولا شبهة.
فالسنة أرفع من أن تحتضن اعشابا شائكة وخز بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية: وأدمى بها تفكير المقاييس العلمية قبل أن يشوه بها السنة المنزهة ويسئ الى النبي وأمته صلى الله عليه واله.
وبالجملة: قال السنة منهاج الاسلام، ودستور الحياة اللاحب في كل ما يجب أن تصاغ الحياة على مثاله في الاخلاق والعقائد والاجتماع والعلم والآداب، فلا يصح في منطق أن نسكت عن هذا الدخل الشائن لجوهر الإسلام وروحه الرفيعة المنادية بالتحرر والانعتاق من كبول العقائد السخيفة والخرافات التي يسبق الى الذهن استنكارها.
____________
(1) في الفصل 14.
(2) راجع منه الفصل 10.
واذن فالواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث هذا المكثار.
أقول هذا وأنا أرى وجوها تنقبض دوني، ونفوساً تتقبض مزورة عني. وقد يكون لها بسبب الوراثة والتربية والبيئة أن تنقبض وتتقبض أمام حقيقة وضعها البحث على غير ما الفت من احترام الصحابة واعتقاد عدالتهم أجمعين اكتعين أبصعين من غير أن تزن أعمالهم وأقوالهم بالموازين التي اخذ النبي صلى الله عليه وآله بها أمته، لأن الصحبة عندهم بمجردها حرم لاتنال من اعتصم به معرة ولا يمس بجرح وان فعل ما فعل وهذا شطط على المنطق؛ وتمرد على الادلة وبعد عن الصواب.
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة، لكنها غير عاصمة، والصحابة فيهم العدول وفيهم الاولياء والأصفياء والصديقون وهم علماؤهم وعظماؤهم وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم؛ والكتاب الحكيم يعلن ذلك بصراحة (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم) فعدولهم حجة ومجهول الحال نتبين أمره وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم.
هذا رأينا في جملة الحديث من الصحابة وغيرهم والكتاب والسنة بينتنا على هذا الرأي (1) فالوضاعون لا نعفيهم من الجرح وان اطلق عليهم لفظ الصحابة، لأن في اعفائهم خيانة لله عز وجل ولرسوله ولعباده، ونحن في غنى
____________
(1) لكن الجمهور بالغوا في تقديس كل من يسمونه صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين واقتدوا بالطلقاء وأمثالهم ممن سمع النبي أو رآه اقتداء أعمى وانكروا على من يخالفهم في هذا الغلو وخرجوا في الانكار عن كل حد من الحدود كما بيناه على سبيل التفصيل في: ص11 إلى منتهى: ص15 من أجوبة موسى جار الله وفي الفصل الذي عقدناه في: ص23 منها فراجع
بالعلماء. والعظماء والصديقين والصالحين، من أصحابه صلى الله عليه واله ومن عترته التي أنزلها منزلة الكتاب وجعلها قدوة لأولى الألباب.
وعلى هذا فقد اتفقنا في النتيجة وان قضى الالتواء في المقدمات شيئاً من الخلاف، فان الجمهور إنما يعفون أبا هريرة، وسمرة بن جندب، والمغيرة، ومعاوية؛ وابن العاص، ومروان، وأمثالهم تقديساُ لرسول الله لكونهم في زمرة من صحبه صلى الله عليه واله ونحن إنما ننتقدهم تقديساً لرسول الله ولسنته صلى الله عليه واله شأن الأحرار في عقولهم ممن فهم الحقيقة من التقديس والتعظيم.
وبديهي ـ بعدُ ـ أن تكذيب كل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه واله شيئاً خارجا عن طاقة التصديق أولى بتعظيم النبي وتنزيهه وأجرى مع المنطق العلمي الذي يريده صلى الله عليه واله لرواد الشريعة ورواد العلم من أمته. وقد أنذر صلى الله عليه واله بكثرة الكذابة عليه وتوعدهم بتبوء مقاعدهم من النار فاطلق القول بالوعيد.
وإنى انشر هذه الدراسة في كتابى هذا ـ أبو هريرة ـ مخلصاً للحق في تمحيص السنة وتنزيهها في ذاتها المقدسة وفي نسبتها لقدسى النبي الحكيم العظيم (وما ينطق عن الهوى).
وللحق في سلامة التفكير وصدق النظر.
وللحق في قواعد العلم والعقل التي تأبى احترام كذاب على رسول الله صلى الله عليه واله فتعفيه من الجرح لأنه صحب رسول الله!! وتأبى كل الاباء ان نخضع لروايته (مغلولين مفلوين) فيما يمس السنة النبوية وهي أولى بالتنزية والتقديس لأنها رسالته الى العالمين وبقيته الباقية الى يوم الدين.
وليس لأحد أن يتقبض أو تنقبض نفسه بعد أن نقدم له كتابنا هذا وفيه صفايا ما عندنا من هذه الدارسة، ونحن نكرم الفكر نفسه ونرفعه عن ان يهون فيسف الى حياطة الخرافة واحاطتها بسور من قدس موهوم (له باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب).
ولا نريد لوجه أن يتقبض ولا لنفس أن تنقبض، بل نريد لمن تمربه هذه السحابة المركومة من التقاليد أن يتحرر منها ثم يمعن في الكتاب امعان أُولى الألباب (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب).
لانقصد بهذا الكتاب ـ شهد الله ـ أن نصدع هذه الوحدة المتواكبة المتراكمة في هذه اللحظة المستيقظة، بل نقصد تعزيز هذه الوحدة واقامتها على حرية الرأى والمعتقد، لتكون الوحدة على هذا الضوء للغاية وادل على القصد، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
والكرامة العقلية أسمى الكرامات التي يسعى اليها أُولوا الألباب باغلى مالديهم من أموال وأنفس ودماء، لأنها السلم إلى المجد والجسر الى الاتحاد.
أما إذا شاء بعض اخواننا في الدين الإسلامي أن يصّعر خده محمراً أو مصفراً فليصغ الى هذه الملاحظات المتواضعة، وليفتنا بعدها يجدنا إن شاء الله تعالى أقرب الى تأليف الكلمة وتوحيد الصفوف بالرغم عن هذا الشوك الذي يقض المضجع؛ ويخز الفكر، ويدمي الضمير، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
بين ايدينا الآن من هذه الملاحظات ألوان: بعضها يمس العقل في اُفقه وطاقته، وبعضها يمس العقيدة في صورتها ومعناها، وبعضها يمس الطبائع في نواميسها وفطرتها، وبعضها متناقض متداحض؛ وبعضها خارج على قواعد العلم المشتقة من صلب الدين، وكثير منها تزلف الى بني أمية أو الى الرأي العام في تلك الأيام؛ وبعضها خيال أو خبال، وهي بجملتها خروج على أصول الصحة في كل معانيها.
فمن بلاياه أن ملك الموت كان قبل موسى يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى فلطمه موسى ففقاً عينه! وأرجعه على حافرته إلى ربه أعور! فكان بعد هذه الحادثة يأتي الناس خفياً!.
ومنها: تلك المسابقة الطريفة بين الحجر وموسى، أو بين موسى والحجر إذ وضع موسى ثيابه عليه ليغتسل في ناحية عن الناس ففر الحجر بثياب موسى ليستدرجه الى لحاقه عارياً! كي ينفي الشائعة عن فتق موسى بمروره على الملأ من بني اسرائيل مكشوفاً كما خلق يشتد خلف الحجر يناديه بأعلى صوته ثوبى حجر ثوبى حجر حتى وقف الحجر إذ انتهت مهمته فطفق موسى يضربه بعصاه ضرباً أثر فيه ندوبا أي جروحا قال أبو هريرة: ان في الجحر ندباً ستة أو سبعاً.
وأطرف مافي هذه الاسطورة هذا التردد من أبي هريرة في ندوب الحجر فان ورعه في الحديث كان يفرض عليه أن لايحدث عن شئ حتى يكون منه على مثل ضوء الشمس.
ومنها: ذلك الجراد الذهبي المتراكم يتساقط على أيوب عليه السلام وهو يغتسل فجعل يحثى منه في ثوبه.
ومنها: ان مولودين تكلما برشد وعقل وعلم بالعواقب الغيبية حيث لا مقتضى لخرق العادة ونواميس الطبيعة.
ومنها: ان بقرة وذئباً يتكلمان بلسان عربي مبين، يدل على عقل وحكمة وعلم بالغيب، حيث لامقتصى للتحدى والاعجاز. في حديث حدث به في فضل الخليفتين.
ومنها: مجئ الشيطان اليه في صورة رجل في ثلاث ليالي متوالية ليسرق لعياله وأطفاله الجوعى من طعام كان أبو هريرة موكولا إليه حفظه في خرافة عجيبة.
ومنها: ان أمة من بني اسرائيل فقدت، وبعد البحث عنها تبين أنها الفأر بدليل أن الفأر اذا وضع لها البان الابل لم تشرب! واذا وضع لها البان الشاة شربت ومنها: حديثه إذ كان ـ فيما زعم ـ مع العلاء في أربعة آلاف فأتوا خليجاً من البحر ما خاضه أحد قبلهم! ولا يخوضه أحد بعدهم! فأخذ
العلاء بعنان فرسه فسار على وجه الماء وجه الماء! وسار الجيش وراءه (قال أبو هريرة) فو الله ما ابتل قدم ولا خف ولا حافر!
ومنها: حديثه عن مزودة المبارك اذ كان فيه تميرات طعم منها الجيش كله حتى شبع والنميرات على حالها فكانت معاشه مدة أيامه على عهد النبي صلى الله عليه واله وابي بكر وعمر وعثمان، حتى كانت مأساة هذا المزود الكريم في طى مأساة عثمان، اذا انتهب مع ما انتهب في تلك المحنة.
ومنها: حديثه عن داود إذ خفف القرآن عليه فكان يقرؤه كله في وقت لايسع قراءته كان ـ فيما زعم أبو هريرة ـ يأمر بدابته فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج، فهل هذا إلا كقول القائل: كان يضع الدنيا على سعتها في البيضة على ضيقها؟
ومنها: أحاديث تناول فيها الحق تبارك وتعالى فصوره في اشكال تعالى الله عز وجل عنها علواً كبيرا.
كحديثه في ان الله خلق آدم على صورته؛ طوله ستون ذراعاً في سبعة أذرع عرضاً. وقد تطور فيه، فتارة رواه كما سمعت. وتارة بلفظ: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته. ومرّة بلفظ اذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فان الله خلق آدم على صورته، ومرة رواه بلفظ: خلق آدم على صورة الرحمان.
وهذا افتتان في خيال طريف في تصوير الله تعالى وآدم ضمنه أدباً بارعاً وتعاليم إن ننسبها الى الدين الاسلامي نجد فيها إغراباً يثير فينا الضحك والبكاء في آن واحد.
وحديثه في أن الله تعالى يأتي هذه الأمة يوم القيامة في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا
فاذا أتانا عرفنا فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم! فيقولون أنت ربنا فيتبعونه، في قصة طويلة مظلمة باردة ذات خيال شرود آبد يعرض الله في اشكال يتنكر في بعضها! ويغدو على عباده! ويروح في ملابسات فيها النكتة وفيها الحوار وفيها المخادعة! وفيها الضحك من الله في غير عجب! على نحو لا يقتصر الاصطدام فيه بالعقائد الاسلامية والمستقلات العقلية فحسب. بل يصطدم الى ذلك باللياقات الملكية إذا ما شينا ـ والعياذ بالله ـ فكرة التجسيم حاشا لله وتعالى الله وتقدست أسماؤه.
وحديثه في أن جنهم لا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها! في خراقة فيها افتخار النار بالمتكبرين واستكانة الجنة بدخول سقطة الناس اليها.
وحديثه في أن ربه ـ تعالى الله ربنا ـ ينزل كل ليلة الى السماء الدنيا يقول من يدعوني فاستجيب له.
الى غير ذلك من الأحاديث التي كانت مصدراً لمذهب التجسيم في الاسلام كما ظهر في عصر التعقيد الفكري، فظهر بسببها أنواع من البدع والأضاليل.
وله أحاديث عنى فيها بالانبياء عليهم السلام، فوصفهم بما تجب عصمتهم منه. وحسبك منها حديثه اذ وصف أهوال القيامة فصور الناس يفزعون الى آدم ثم إلى نوح ثم الى ابراهيم ثم الى موسى ثم الى عيسى عليهم السلام في لجلجة لم تعد عليهم بطائل لأن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام حجبت ـ على زعم أبي هريرة ـ شفاعتهم بما فرض لهم هذا الرجل من الذنوب التي غضب الله بها عليهم غضباً بكراً فذاَ ما غضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده وأخيراً كانت الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه واله وي كأن أبا هريرة لم يجد سبيلا الى تفضيل النبي صلى الله عليه واله إلا بالغض من سلفه أولى العزم عليهم السلام.
وحديثه المتضمن نسبة الشك الى خليل الله ابراهيم عليه السلام إذ قال: رب
أرني كيف تحي الموتى في كلام جعل رسول الله صلى الله عليه واله أحق بالشك من ابراهيم وجعل يوسف أفضل من النبي بالصبر والاناة فيه لوط من التفنيد إذ قال: أو آوى الى ركن شديد.
وحديثه المشتمل على نقض سليمان حكم أبيه! في اسطورة مثلت متداعيتين على ولد قضى به داود للكبرى فقال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لاتفعل هو ابنها فقضى به للصغرى والتناقض بين نبيين في حكم خاص من احكام الله تعالى لايتفق ومباني العقائد الاسلامية الصحيحة واطرف مافي هذه الأسطورة حلف أبي هريرة انه لم يكن سمع في حياته بالسكين إلا يومئذ وانهم ما كانوا يقولون الاّ المدية.
وحديثه عن سليمان إذ قال: لأ طوفنّ الليلة بمائة امراة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل فأطاف بهن! فلم تلد منهن إلا امرأة نصف انسان.
وحديثه في نملة قرصت موسى فامر بقرية النمل فاحرقت فاوحى الله اليه قرصتك نملة فاحرقت أمة من الامم تسبح لله تعالى.
وحديثه عن رسول الله صلى الله عليه واله انه كان يؤذي ويسب ويلعن ويجلد على الغضب من لا يستحق ذلك فيكون ايذاؤه وجلده وسبّه ولعنه كفارة لذنوب من يتعرض منه لهذا الشر.
ولو نسب هذا الى فرعون لأساء الى أخلاقه، على أن ناساً علنهم رسول الله صلى الله عليه وآله لا يستحقّون المغفرة فهل يلزمنا أبو هريرة بحبهم واحترامهم ورفعهم كما ترفع البررة الصالحون؟ وما هي المقاييس الصحيحة بعد هذا المقياس الهريرى الطريق؟
وحديثه في عروض الشيطان لرسول الله صلى الله عليه واله ليقطع عليه صلاته فذعته ـ أي خنقه ـ وهمّ ان يوثقه الى سارية لينظر الناس اليه مكتوفاً لكنه صلى الله عليه واله
ذكر قول سليمان رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي. فخلى سبيله. وحديثه في نوم النبي صلى الله عليه واله عن صلاة الصبح.
الى غير ذلك من احاديثه التي فتحت الباب للقول بعدم عصمة الانبياء وتعريضهم للخطأ والزلل في رأى معوج لايستقيم عليه معنى النبوة في حقيقته وواقعه.
وهنالك لون آخر في حديثه يريك التناقض بأجلى مظاهره فانظر الى حديثي أبي سلمة منه في العدوى إذ نفاها في الأول منهما. وائبتها في الثاني فناقشه أبو سلمة قائلا له: يا أباهريرة ألم تحدث انه لا عدوى؟ فانكر حديثه الأول ورطن بالحبشية. وانظر إلى حديثه عن طواف سليمان ـ على زعمه ـ بنسائه تجده متعارضاً متناقضة فتارة روى انهن مائة، وأخرى روى انهن تسعون. ومرة روى انهن سبعون وأخرى انهن ستون! وكل ذلك ثابت عنه في الصحاح.
وانظر إلى أحاديثه في هجرته تجدها صريحة بأنه انما هاجر مسكيناً حافياً طاويا خادماً يخدم هذا وهذه بشبع بطنه فمن اين له الغلام الذي حدث عنه في الشام؟ إذ قال (على عهد معاوية): لما قدمت على النبي صلى الله عليه واله وسلم ابق غلام لي في الطريق، فبينا أنا عند رسول الله أبايعه إذ طلع الغلام فقال لي النبي: يا أبا هريرة هذا غلامك؟ قلت: هو لوجه فاعتقته.
وأنظر الى احاديثه عن نفسه وهو في الصفة تجدها صريحة بانه أنما كان من مساكينها المعدمين وقد استوطنها طليلة عمر النبي صلى الله عليه واله فكانت مثواه ليلا ونهاراً إذ لم يكن له في المدينة عشيرة ولا منزل سواها ولم يكن عليه إلا نمرة يدب القمل عليها كان يربطها في عنقه فتبلغ ساقيه فيجمعها بيده لئلا تبدو عورته. وكان يصرعه الجوع فيخر مغشياً عليه بين المنير والحجرة فمن اين له
الدار التي ادعاها اواخر حياته؟ في حديث حدث به في الشام عن نفسه وعن أمه اذ أسلمت بدعاء النبي صلى الله عليه قاله لها وله ـ فيما زعم ـ.
وانظر إلى احتجاجه على مستنكرى حديثه تجده متعارضأ متساقطأ كما فصلناه في الأصل على انه في نفسه مما تنبو عنه الاسماع لسخافته وتفيه العقول لسقمه ـ كما بيناه ثمة ـ وقد جاء فيه: ان أبا هريرة بسط نمرته لرسول الله فطفق صلى الله عليه واله يغرف العلم بيديه فيكيله في النمرة ثم يقول ضمه يا أبا هريرة فيضمه الى صدره فيعصم بذلك من النسيان ويكون به احفظ الصحابة واعلمهم بالسنة.
هذه حجته على مستنكرى حديثه سخره الله بها حجة لخصومه عليه وبرهاناً قاطعاً على صحة ما نسبوه اليه وشوارد احاديثه التي كان يكيلها جزافاً ويحدث بها متنافرة متنا كرة كثيرة الى الغاية لكن هذا القدر كاف لما اردناه ولا حول ولاقوة إلا بالله.
وحسبك في أبي هريرة انه كان يحدث بما لم يره ولم يسمعه ويدعي مع ذلك الرؤية والسماع كما ستسمعه في فصله الخاص به من الكتاب، واليك الآن نمودجا من ذلك تقيس عليه ما سواه.
قال أبو هريرة فيما صح عنه بالاجماع: دخلت على رقية بنت رسول الله زوجة عثمان وبيدها مشط فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من عندي آنفاً رجلت شعره الحديث.
ومن المعلوم اجماعا وقولا واحداً أن رقية انما ماتت سنة ثلاث بعد فتح بدر، وأبو هريرة انما أسلم سنة سبع بعد فتح خيبر فأين كان عن رقية ومشطها يا أولي الألباب؟.
واليك نموذجا من حديثه الخارج على قواعد العلم المشتقة من صلب الدين ألا وهو قوله: بعثنا رسول الله صلى الله عليه واله في بعث فقال: ان وجد تم فلاناً وفلاناً
فاحرقوهما بالنار (قال) ثم قال لنا حين أردنا الخروج: انى أمرتكم أن تحرقوها وان النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فان وجدتموهما فاقتلوهما أهـ.
وهذا من النسخ قبل حضور وقت العمل، وهو محال على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه واله.
ورب حديث له خارج على العقل كحديثه عن داود وقراءته القرآن بأجمعه في لحظة لا تسع اسراج الدابة كما سمعت.
وله أحاديث خيالية أوردنا منها ستة في ختام الأربعين من حديثه في الفصل 11 لتكون نموذجا لسائر ما كان من نوعها.
أما ما تزلف به الى بني أمية وأعوانهم أو الى الرأي العام في تلك الأيام فكثير أوردنا منه طائفة في الفصل 5 والفصل 7 والفصل 9 وستجدها على أنواعها مختلفة، فأمعن متحرراً متجرداً تجده جائعاً يريد أن يشبع من الحديث، ويريد أن يشبع خياله من الحياة كما يراها الرجل الجائع وهو ـ بعدئذ ـ يعترف انه موطئ الأقدام في عصر حقره وأجاعه، ثم قذفه الى عصر أشبعه من أجل صناعة الأحاديث، أفيجوز ان نجعله بعد كل هذا جحة؟ نلقى اليه بازمة عقولنا وعقائدنا من غير نظر نختاره لهذه العقول والعقائد؟
فان صح هذا عقلاً وشرعاً فليمض أبو هريرة ومن اليه في حرمهم الذي بنته السياسة ووضعته بين التقاليد والمواريث.
وان صح عماية التقاليد والمواريث منشأ لفرقة؛ أو مثاراً لخلاف فلتبق حتى يأذن الصبح، إن أريد إلاّ الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
أبو هريرة
حدّث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأكثر، وروت عنه الصحاح الستة وسائر مسانيد الجمهور فأكثرت. فلم يسعنا ازاء هذه الكثرة المزدوجة إلى أن نبحث عن مصدرها، لإتصالها بحياتنا الدينية والعقلية اتصالاً مباشراً. ولولا ذلك لتجاوزناها وتجاوزنا مصدرها الى ما يغنينا عن تجشم النظر فيها وفيه.
لكن آسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدين وأصوله فاحتج بها أهل المذاهب الأربعة ومتكلموهم من الأشاعرة وغيرهم كثير من أحكام الله وشرائعه عز وجل ملقين اليها سلاح النظر والتفكير لذلك لم يكن بد من البحث عن هذا المكثر نفسه. وعن حديثه كماً وكيفا لنكون على بصيرة فيما يتعلق من حديثه باحكام الله عز وجل.
إسمه ونسبه (*)
كان أبو هريرة غامض الحسب، مغمور النسب، فاختلف الناس في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً. ولا يضبط في الجاهلية والإسلام (1) وانما يعرف بكنيته. وينسب الى دوس. وهي قبيلة يمانية تفرعت عن دوس ابن عدنان بن عبد الله بن زهران كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن النضر بن الأزد بن الغوث.
أما أبوه فقد قيل (2) ان اسمه عمير وانه ابن عامر بن عبد ذي الشرى
____________
(*) ـ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فيقول أضعف المؤمنين عملا، وأقواهم بعفو الله أملا؛ عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي: هذه تعليقة تضمن بيان مصادر الكتاب ولاندع شاردة عنه إلا ردتها اليه؛ فما أولى البحث والتدقيق بتتبعها، والله هو المرجو أن ينفع بها وبأصلها ويجعلهما خالصين لوجهه الكريم إنه أرحم الراحمين.
(1) ـ نص على هذا بعين لفظه أبو عمر بن عبد البر في ترجمة أبي هريرة من استيعابه ومن راجع ترجمته في معاجم التراجم كالاستيعاب والاصابة وأُسد الغابة وطبقات ابن سعد وغيرها يجد غموض حسبه ونسبه محسوساً.
(2) ـ القائل بهذا محمد بن هشام بن السائب الكلبي فيما نقله عنه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته وقواه أبو أحمد الدمياطي فيما نقله عنه ابن حجر في ترجمة أبي هريرة من اصابته.
ابن طريف بن غياث بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس.
وأمه أميمة ابنة صفيح بن الحارث بن شابي بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس (1).
وكنى أبا هريرة بهرة صغيرة كان مغرماً بها (2) ولعل من غرامه بها حدث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض (3) وردت عليه عائشة إذبلغها حديثه ان شاء الله تعالى من هذا الكتاب ـ.
____________
(1) ـ هكذا ساق نسبها محمد بن سعد في ترجمة أبي هريرة؛ وهي في ص 52 وما بعدها من القسم الثاني من الجزء الرابع من طبقاته.
(2) ـ روى ابن قتيبة الدينوري (في ترجمة أبي هريرة ص 93 من كتابه المعارف) ان أبا هريرة كان يقول: وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها. وأخرج ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من الطبقات بالاسناد اليه قال كنت أرعى غنما وكانت لي هرة صغيرة فكنت اذا كان الليل وضعتها في شجرة فاذا أصبحت أخذتها فلعبت بها فكنوني أبا هريرة وكل من ترجم ذكر هذا أو نحوه واستمر في الاسلام على غرامه بالهرة والعبث بها حتى رآه النبي صلى الله عليه واله يحملها في كمه كما ذكره الفيروز آبادي في مادة الهرة من قاموسه المحيط.
(3) ـ أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ص 149 من الجزء الثاني من صحيحه. وأخرجه أحمد بن حنبل من حديث أبي هريرة ص 261 من الجزء الثاني من مسنده.
نشأته وإسلامه وصحبته
نشأ في مسقط رأسه (اليمن) وشب ثمة حتى أناف على الثلاثين (1) جاهلياً لا يستضئ بنور بصيرة ولا يقدح بزناد فهم، صعلوكاً قد أخمله الدهر ويتيماً أزرى به الفقر. يخدم هذا وذاك وتى وتلك مؤجراً نفسه بطعام بطنه (2) حافياً عارياً. راضياً بهذا الهوان، مطمئناً اليه كل الاطمئنان.
لكن لما أظهر الله أمر نبيه صلى الله عليه واله في المدينة الطيبة بعد بدر وأحد والأحزاب وبعد اللتيا والتي. لم يكن لهذا البائس المسكين حينئذ مذهب عن باب رسول الله صلى الله عليه واله فهاجر اليه بعد فتح خيبر فبايعه على الاسلام وكان سنة سبع للهجرة بانفاق أهل الاخبار.
أما صحبته فقد صريح أبو هريرة ـ في حديث أخرجه البخاري (3) ـ بأنها كانت ثلاث سنين.
____________
(1) ـ قال أبو هريرة من حديث تجده في ترجمته من الاصابة وغيرها قدمت ورسول الله بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين.
(2) ـ كان أبو هريرة يحدث عن نفسه فيقول كما في ترجمته من الطبقات والاصابة وحلية الأولياء وغيرها ـ: كنت أجيراً لابن عفان وابنه غزوان بطعام بطني اسوق بهم اذا ركبوا وأخدمهم اذا نزلوا. وله كلام في هذا المعنى كثير سنورده في محله من الاصل.
(3) ـ في باب علامات النبوة في الإسلام ص 182 من الجزء الثاني من صحيحه. وهو موجود في ترجمة أبي هريرة من الاصابة والطبقات.
على عهد النبي صلى الله عليه واله
لما أسلم أبو هريرة انضوى باسلامه الى مساكين الصفة (1) وهم ـ كما قال أبو الفداء في تاريخه المختصر ـ: أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر ينامون على عهد رسول الله صلى الله عليه واله في المسجد ويظلون فيه. وكانت صفة المسجد مثواهم فنسبوا اليها. وكان اذا تعشى رسول الله صلى الله عليه واله يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم. قال: ومن مشاهيرهم أبو هريرة الى آخر كلامه (2).
وكان أبو هريرة ـ كما نص عليه أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء (3) اشهر من سكن الصفة واستوطنها طول عمر النبي صلى الله عليه واله ولم ينتقل عنها. وكان عزيف من سكن الصفة من القاطنين ومن نزلها من الطارقين الى آخر كلامه.
وصف أبو هريرة نفسه فقال ـ كما في أول البيوع من صحيح البخاري ـ: وكنت امراً مسكيناً من مساكين الصفة، الحديث وهو طويل (4).
قال ـ كما في باب نوم الرجال في المسجد من كتاب الصلاة من صحيح
____________
(1) ـ قال ابن الأثير في مادة صفف من النهاية: أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منزل يسكنه وكانوا يأوون الى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه.
(2) ـ فراجعه في آخر حياة النبي عند ذكر أصحابه.
(3) ـ ص 376 من جزئها الاول حيث ترجم أبا هريرة.
(4) ـ فراجعه في الصفحة الاولى من الجزء الثاني من الصحيح.
البخاري (1) ـ: رأيت سبعين من أصحاب الصفة (2) ما منهم رجل عليه رداء وانما عليه أما ازار واما كساء بطوه في اعناقهم فمنها ما بيلغ نصف الساقين. ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته أهـ.
وفي صحيح البخاري من حديث طويل (3) عن أبي هريرة قال فيه: وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه واله بشبع بطنه.
وفيه أيضاً من طريق ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة من حديث (4) قال فيه: وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه واله على ملء بطني.
وحدّث عن نفسه في مقام آخر فقال (5): كنت من أصحاب الصفة فظللت صائماً فامسيت وأنا أشتكي بطني فانطلقت لأقضى حاجتي فجئت وقد أوكل الطعام. وكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام لأهل الصفة فقلت: إلى من أذهب؟ فقيل لي: الى عمر بن الخطاب فاتيته وهو يسبح بعد الصلاة فانتظرته فلما انصرف دنوت منه؛ فقلت: أقرئني وما أريد إلا الطعام، قال: فاقرأنى
____________
(1) ـ ص 60 من جزئه الاول.
(2) ـ السبعون من اصحاب الصفة قد استشهدوا باجمعهم يوم بئر معونة قبل إسلام أبي هريرة؛ وهذا الحديث نظير حديثه إذ قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه واله وفي يدها مشط مع ان رقية قد ماتت قبل مجئ أبي هريرة الى المدينة بزمان وكم له من نظير هذا ستسمعه في محله من الاصل.
(3) ـ تجده في باب حفظ العلم من كتاب العلم ص 24 من جزئه الاول وأخرجه ايضا غير واحد من حفظ الاثار كأبى نعيم في حليته.
(4) ـ هو الحديث الاول من كتاب البيوع في الصفحة الاولى من جزئه الثاني.
(5) ـ فيما أخرجه أبو نعيم في ترجمة أبي هريرة من الحلية ص 378 من حزئها الاول.
أيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب فأبطأ؛ فقلت: ينزع ثيابه؛ ثم يأمر لي بطعام؛ فلم أر شيئاً، فلما طال علي قمت فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه واله فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء (1) فقال: آتينا بتلك القصعة، قال: فأتتنا بقصعة فيها وضر (2) من طعام أراه شعيراً قد اكل وبقى في جوانبها بعضه وهو يسير فأكلت حتى شبعت أهـ.
وكثيراً ما كان يصف نفسه فيقول (3): والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدى على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه ـ من المسجد ـ فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل ثم مر عمر بي فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل. ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه واله فتبسم حينٍ رآني وعرف مافي نفسي وما في وجهي. ثم قال: أبا هر قلت: لبيك يارسول الله؛ قال: إلحق ومضى فتبعته فدخل فأذن لي فدخلت فوجدنا لبناً في قدح، فقال صلى الله عليه واله: من اين هذا اللبن؟ قالوا أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر، قلت: لبيك؛ قال: إلحق الى أهل الصفة فادعهم لي؛ قال: وأهل الصفة اضياف الإسلام لا يأوون الى أهل ولا على أحد؛ وكان صلى الله عليه واله اذا أتته صدقة بعث بها اليهم ولم يتناول منها شيئاً، واذا أتته هدية أشركهم فيها، قال فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق ان أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها؛ فاذا جاءوا أمرني ان
____________
(1) ـ ما عهدنا ولا سمعنا ان في بيت رسول الله صلى الله عليه واله جارية سوداء.
(2) ـ في النهاية وضر الصفحة دسمها وأثر الطعام فيها.
(3) ـ كما في باب كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه واله وأصحابه من كتاب الرقاق ص 81 من الجزء الرابع من صحيح البخاري. وأخرجه أبو نعيم مختصراً في ترجمة أبي هريرة من حلية الأولياء.
أعطيهم، وما عسى ان يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله ورسوله بد فأتيتهم فدعوتهم فاقبلوا فاستأذنوا فاذن لهم واخذوا مجالسهم فقال صلى الله عليه واله يا أبا هر خذ فاعطهم؛ فاخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح فاعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرده عليّ فاعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ولم ازل حتى انتهيت الى النبي صلى الله عليه واله وقد روى القوم كلهم فاخذ القدح وتبسم اليَّ فقال: أبا هر بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يارسول الله قال: اقعد فاشرب؛ فقعدت فشربت، قال، اشرب فشربت، فما زال يقول: أشرب؛ حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما اجد له مسلكاً قال: فأرنيه. فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة (1).
وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة قال: رأيتني واني لا خر فيهما بين منبر رسول الله صلى الله عليه واله الى حجرة عائشة مغشياً على فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى اني مجنون وما بى من جنون مابى إلا الجوع أهـ.
وكان ذو الجناحين جعفر بن أبي طالب عليهما السلام كثير البر والاحسان والصدقة والعطف على البائسين. فكان يطعم أبا هريرة من جوع فوالاه
____________
(1) ـ هذا الحديث اخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه وهو من أعلام النبوة ـ لوصح ـ فما ندرى لم لم يروه غير أبي هريرة؟ وهلا حدث بهذه الآية شركاء أبي هريرة في اللبن على الاقل؟ وما ندرى هل كان ثمة مقتض للتحدي والاعجاز؟ وموجب لخرق العادات؟ فان مثل هذه الآية لاتكون إلا عند الاقتضاء ونحن نؤمن بآيات الله تعالى ومعجزات رسله ومع ذلك فان الظاهر ان الحديث مما تزلف به أبو هريرة إلى غوغاء الناس وعوامهم بعد وفاة كبراء الصحابة لم يبق منهم من يخشاه.
(2) ـ راجع من جزئه الرابع ص 175 تجده في أواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
أبو هريرة وفضله ـ كما في ترجمة جعفر من الاصابة ـ على الناس بعد النبي كافة.
وقد روى البخاري (1) بالأسناد الى أبي هريرة قال: إن الناس يقولون اكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه واله واني كنت ألزمه بشبع بطني حتى لا أكل الخمير ولا ألبس ولا يخدمني فلان وفلانة وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وكنت استقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان اخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته الحديث (2).
وأخرج البغوي من طريق المقبري ـ كما في ترجمة جعفر من الاصابة ـ قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس اليهم ويخدمهم ويخدمونه ويحدثهم ويحدثونه فكان رسول الله صلى الله عليه واله يكنيه أبا المساكين (3).
وأخرج الترمذي والنسائي بالسند الصحيح ـ كما في ترجمة جعفر من الاصابة ايضاً ـ عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولاركب المطايا ولا وطأ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه أفضل من جعفر بن أبي طالب (4).
____________
(1) ـ في ص 197 من الجزء الثاني من صحيحه في باب مناقب جعفر وأخرج نحوه أبو نعيم في ترجمة جعفر 117 من الجزء الأول من حليته.
(2) ـ ونقل ابن عبد ربه الاندلسي ـ في فصل الجود مع الاقلال من الجزء الاول من عقده الفريد ـ عن أبي هريرة انه قال: تبعت جعفر بن أبي طالب ذات يوم وانا جائع فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: ادخل فدخلت ففكر حيناً فما وجد في بيته شيئاً إلا نحيا كان فيه سمن مرة، فانزله من رف لهم، فشقه بين ايدينا، فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والزيت وهو يقول:
(3) ـ وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم في ترجمة جعفر من حلية الاولياء ص 117 من جزئها الاول من طريق المقبري عن أبي هريرة ايضاً.
(4) ـ وهذا الحديث أورده ابن البرفي ترجمة جعفر من الاستيعاب.
وما زالت الصفة موطن أبي هريرة الذي يطمئن اليه ليلا ونهاراً، لا يأوي إلى ما سواها حتى ارتحل النبي صلى الله عليه واله من هذه الدار الفانية ولحق بالرفيق الأعلى وقبل ذلك لم يقم أبو هريرة بشئ يعود عليه بشبع بطنه سوى القعود في طريق المارة ينزع اليهم بجوعه. لا تحفزه مهمة. ولا يذكر في حرب ولا في سلم، بلى ذكروا أنه فر من الزحف يوم مؤتة (1).
وزعم أنه كان في البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه واله مع على ببراءة الى مكة وأنه نادى يوم الحج الأكبر حتى صحل صوته، وله في ذلك حديثان متناقضان متساقطان كما ستقف عليه في محله إن شاء الله تعالى.
وزعم أن النبي صلى الله عليه واله وكله بحفظ زكاة رمضان في حديث طويل (2) سنورده في الأباطيل.
ـ 4 ـ
على عهد الخليفتين
على عهد الخليفتين
ألممنا بأخبار الخليفتين، واستقرأنا ما كان على عهدهما؛ فلم نجد لأبي هريرة ثمة أثراً يذكر؛ سوى ان عمر بعثه والياً على البحرين سنة إحدى وعشرين (3). فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله وولى عثمان بن أبي العاص
____________
(1) ـ راجع ص 42 من الجزء الثالث من المستدرك تجد أبا هريرة يعير بذلك فلا يدري أي شئ يقول لمن عيره.
(2) ـ اخرجه البخاري في كتاب الوكالة ص 29 من الجزء الثاني من صحيحه.
(3) ـ حين مات الوالي عليها من قبل رسول الله صلى الله عليه واله وأبي بكر وعمر وهو العلاء ابن الحضرمي.
الثقفي (1)، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة آلاف زعم انه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة، وحسبك منها ما ذكره عبد ربه المالكي(فيما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم من أوائل الجزء الأول من عقده الفريد) إذ قال ـ وقد ذكر عمرـ: ثمّ دعا أبا هريرة. فقال له: علمت اني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين. ثم بلغني انك ابتعت افراساً بالف دينار وستمائة دينار. قال: كانت له أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت. قال: حسبت لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل فأده قال: ليس لك ذلك. قال: بلا والله وأوجع ظهرك ثم قال اليه بالدرة فضربه حتى أدماه ثم قال: ائت بها؛ قال: احتسبها عند الله قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً؛ أجئت من أقصى حجر البحرين يجي الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ مارجّعت (2) بك اميمة إلا لرعية الحمر.
قال ابن عبدربه: وفي حديث أبي هريرة: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: ياعدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله؟ قال فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه ولكني عدو من عاداك وما سرقت مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت قال: فقبضها مني فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين الحديث؛ وقد أورده ابن أبي الحديد إذ ألم بشئ من سيرة عمر في المجلد الثالث من شرح النهج (3)
____________
(1) ـ كما هو ثابت لدى الأخبار ومصرح به في عدة حوادث تلك السنة من تاريخ ابن الأثير وغيره.
(2) ـ الرجع والرجيع العذرة والروث سميا رجيعا لانهما رجعا من حالتهما الاولى بعد ان كانا طعاما وعلفا، واميمة ام ابي هريرة، وكلمة الخليفة هذه من افظع كلمات الشتم.
(3) ـ ص 104 طبع مصر.
وأخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته الكبرى (1) من طريق محمد ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله إلى آخر الحديث. وأورده ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبي هريرة من أصابته فجؤره عطفاً على أبي هريرة تحويراً خالف فيه الحقيقة الثابتة باتفاق أهل العلم، وذهل عما يستلزمه ذلك التحوير من الطعن بمن ضرب ظهره فادماه وأخذ ماله وعزله.
على عهد عثمان
أخلص أبو هريرة لآل أبي العاص وسائر بني أمية على عهد عثمان واتصل بمروان وتزلف الى آل أبي معيط، فكان له بسبب ذلك شأن، ولاسيما بعد يوم الدار إذ حوصر عثمان فكان أبوهريرة معه. وبهذا نال نضارة بعد الذبول ونباهة بعد الخمول.
سنحت في تلك الفتنة فرصة الانضواء الى الدار فأسدى بها الى آل أبي العاص وغيرهم من الأمويين يداً كان لها أثرها عندهم وعند أعوانهم ومقوية سلطانهم؛ فنضوا عنه دثار الخمول واشادوا بذكره؛ على أنه لم يخف عليهم كونه ما استسلم الى الحصار ولا دخل الدار إلا بعد أن كف الخليفة أيدي أوليائه عن القتال وأمرهم بالسكينة. كما قال بعض معاصريه في رثائه:
وقال لأهل الدار لاتقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
وانما فعل ذلك احتياطاً على نفسه واحتفاظاً بأصحابه. وكان أبو هريرة
____________
(3) ص 90 من قسمها الثاني من جزئها الرابع.
على علم بأن الثائرين لا يطلبون إلا عثمان ومروان. وهذا ما شجعه على أن يكون في المحصورين.
ومهما يكن فقد اختلس الرجل هذه الفرصة فربحت صفقته وراجت سلعته، وأكب بعدها بنو أمية وأولياؤهم على السماع منه. فلم يألوا جهداً في نشر حديثه؛ والاحتجاج به. وكان ينزل فيه على ما يرغبون.
وكان مما حدثهم به عن رسول الله صلى الله عليه واله إن لكل نبي خليلا من أمته وان خليلي عثمان (1).
وقال (2): سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: عثمان حي تستحي منه الملائكة.
ورووا عنه ورفوعاً: لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان (3).
ورووا عنه مرفوعاً أيضاً: أتاني جرئيل فقال لي: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية الحديث (4).
____________
(1) ـ أهل العلم كافة متصافقون على بطلان هذا الحديث، لكن أولياء أبي هريرة يحيلون الآفة به على اسحاق بن نجيع الملطي أحد رجال سنده إلى أبي هريرة، وقد أورده الذهبي في ترجمة اسحاق من ميزان الاعتدال جازماً ببطلانه.
(2) ـ فيما أخرجه ابن كثير عند ذكر فضائل عثمان في حوادث سنة 35 ص 203 من الجزء السابع من كتابه «البداية والنهاية».
(3) ـ هذا الحديث باطل بالاجماع، وأولياء أبي هريرة يحيلون الآفة فيه على عثمان بن خالد بن عمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان أحد سلسلة سنده المتصلة بأبي هريرة، وقد اورده الذهبي في ترجمة عثمان بن خالد المذكور من ميزان الاعتدال وعده من منكرانه.
(4) ـ اخرجه ابن منده وقال: غريب تفرد به محمد بن عثمان بن خالد العثماني أهـ «قلت»: وقد نقل هذا الحديث ابن حجر العسقلاني في آخر ترجمة السيدة ام كلثوم عليها السلام من الجزء الرابع من الاصابة وذكر انه غريب، وانه تفرد به محمد بن عثمان بن خالد العثماني فراجع.
وقال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه واله امرأة عثمان وبيدها مشط فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه واله من عندي آنفا رجلت شعره، فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله (عثمان)؟ قلت: بخير. قال اكرميه، فانه من اشبه أصجابي بي خلقاً (1).
: ربما حرف الكلم عن مواضعه، كما فعل في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه واله من قوله: ستكون بعدي فتنة واختلاف. قالوا فما تأمرنا عند ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه واله ـ وقد أشارة الى علي ـ: عليكم بالامير وأصحابه.
لكن أبا هريرة آثر التزلف الى آل أبي العاص وآل معيط وآل أبي سفيان فروى لهم ان النبي صلى الله عليه واله أشار في هذا الحديث الى عثمان (2) وقد حفظوا له هذا الصنع. كما ستقف عليه في الفصل 8 من هذا الاملاء ان شاء الله تعالى.
ـ 6 ـ
على عهد علي
على عهد علي
خفت صوت أبي هريرة على عهد أمير المؤمنين. واحتبى برد الخمول وكاد أن يرجع الى سيرته الاولى. حيث كان هيان بن بيان وصلعمة بن قلعمة قعد
____________
(1) سنورد هذا الحديث في اول الفصل 13 فراجعه ثمة واعجب.
(2) ولذا اخرجه الحاكم عن أبي هريرة في فضائل عثمان اول: 3/99 من المستدرك. والحق يوجب ذكره في فضائل علي، نظير قول النبي صلى الله عليه واله: تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا واصحابه على الحق، واشار إلى علي، اخرجه الطبراني عن كعب بن عجرة، وهو الحديث 6/2635 من كنز العمال، وقوله صلى الله عليه واله ـ ستكون بعدي فتنتة فالزموا فيها علي بن أبي طالب فانه اول من آمن بي واول من ـ يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة الحديث، أخرجه ابو احمد وابن مندة وغيرهما عن ابي ليلي الغفاري، ونقله في ترجمة ابي ليلى كل من ابن عبد البر في استيعابة وابن حجر في اصابته وغيرهما، وقوله صلى الله عليه واله: ياعمار إن رايت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى الحديث، اخرجه الديلمي عن كل من عمار وابي ايوب وهو الحديث 259 في آخر ص 155 من الجزء 6 من كنز العمال وقوله صلى الله عليه واله: يا ابا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون علياً حق على الله جهادهم الحديث اخرجه الطبراني في الكبير عن محمد بن عبيد الله بن رافع عن ابيه عن جده وهو الحديث 2589 من الجزء 6 من الكنز إلى كثير من امثال هذه النصوص التي لا يسعنا الآن استقصاؤها، وحسبك قوله صلى الله عليه واله: إن منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها القوم وفيهم ابو بكر وعمر، فقال ابو بكر انا هو، قال لا، قال عمر: انا هو؟ قال: لا ولكنه خاصف النعل الحديث، أخرجه الحاكم في آخر: 3/122 من المستدرك وصححه على شرط الشيخين واورده الذهبي في تلخيصه معترفا بصحنة على شرطهما واخرجه احمد من حديث ابي سعيد في: 3/33 و82 من المسند ورواه الحافظ أبو نعيم في ترجمة على: 1/67 من حليته واخرجه ابو يعلى في السنن وسعيد بن منصور في سننه وهو الحديث: 2585 في: 6/155 من الكنز، والاحاديث في وجوب قتال الناكثين والقاسطين والمارقين متظافرة، وأخباره صلى الله عليه واله بوقوع الفتن من بعده متواترة وهي من اعلام النبوة وكلها صريح بوجوب اتباع علي، فحديث ابي هريرة الذي اخرجه الحاكم من جملتها بلا ريب، ويؤيد ذلك ان النبي صلى الله عليه واله لم يطلق الأمير على غير علي ابداً، اما علي فقد نال منه هذا الوسام، وحسبك قوله صلى الله عليه واله لأنس اول من يدخل عليك من هذا الباب امير المؤمنين وسيد الوصيين، الحديث، اخرجه الحافظ الاصفهاني في ترجمة علي من الجزء الاول من حلية الأولياء، وقد امر صلى الله عليه واله ان يسلموا على علي بالامرة كما هو ثابت من طريق العترة الطاهرة، والمقام لايسع التفصيل.
عن نصرة أمير المؤمنين فلم ينضوا الى لوائه، بل كان وجهه ونصيحته الى أعدائه.
وقد أرسله معاوية مع النعمان بن بشير ـ وكانا عنده في الشام ـ الى علي عليه السلام يسألانه أن يدفع قتله عثمان الى معاوية ليقيدهم بعثمان، وقد أراد معاوية بهذا أن يرجعا من عند علي الى الشام وهما لمعاوية عاذران ولعلي لائمان؛ علماً من معاوية أن علياً لا يدفع قتلة عثمان اليه، فاراد أن يكون النعمان وأبو هريرة شاهدين له عند أهل الشام بذلك، وان يظهرا للناس عذر معاوية في قتال علي.
فقال لهما ائتيا علياً فانشداه الله لما دفع الينا قتلة عثمان، فانه قد آواهم، ثم لاحرب بيننا وبينه، فان ابي فكونوا شهداء الله عليه، واقبلا على الناس فاعلماهم بذلك. فأتيا علياً فدخلا عليه، فقال له أبو هريرة: يا أبا حسن ان الله قد جعل لك في الاسلام فضلا وشرفاً، فأنت ابن عم محمد رسول الله صلى الله عليه واله وقد بعثنا اليك ابن عمك يسألك امراً تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله به ذات البين ان تدفع اليه قتلة ابن عمه عثمان فيقتلهم به ويجمع الله تعالى امرك وامره ويصلح بينكم وتسلم هذه الامة من الفتنتة والفرقة، ثم تكلم النعمان بنحو من هذا فقال لهما: دعا الكلام في هذا، حدثني عنك يا نعمان، هل أنت أهدى قومك سبيلا؟ ـ يعني الانصار ـ قال: لا. قال فكل قومك قد اتبعني الا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة افتكون أنت من الشذاذ؟ قال النعمان: اصلحك الله انما جئت لأكون معك والزمك، وقد كان معاوية سألني ان اؤدى هذا الكلام، ورجوت ان يكون لي موقف اجتمع فيه معك. وطمعت ان يجري الله تعالى بينكما صلحا فاذا كان رايك غير ذلك فانا ملازمك وكائن معك.
قال حفظة الآثار: اما أبو هريرة فلم يكلمه أمير المؤمنين فانصرف الى الشام فاخبر معاوية بالخبر فامره معاوية ان يعلم الناس ففعل ذلك وعمل اعمالا ترضي معاوية.
واقام النعمان بعده عند علي ثم خرج فاراً الى الشام فأخبر أهلها بما لقى
الى آخر ما كان من هذه الواقعة (1).
وحين جد الجد، وحمى وطيس الحرب، ورد على أبي هريرة من الهول ما هزم فؤاده وزلزل اقدامه، وكان في أول تلك الفتنة لا يشك بأن العاقبة ستكون لعلي. فضرب الأرض بذقنه، قابعاً في زاويا الخمول يثبط الناس عن نصرة أمير المؤمنين بما يحدثهم به سراً وكان مما قاله يومئذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي ومن وجد ملجاً أو معاذاً فليعذبه (2).
ولم يزل كذلك حتى خرجت الخوارج على أمير المؤمنين واختلف الناس عليه في العراق واستفحل أمر معاوية باستيلائه على مصر وقتله محمد بن أبي بكر وعيثه في بلاد أمير المؤمنين، وشنه الغارات عليها، وبعثه بسراً في ثلاثة آلاف الى الحجاز واليمن عيثاً في الأرض وفساداً، وتنكيلا بعباد الله وتقتيلا، وتحريقاً لهم وتمزيقاً، وانتهاكا لحرمات الله، وهتكا لامائه وسبياً لذراري المؤمنين من عباده؛ وعبرة للناظرين، ومثلا واحدوثة في الغابرين.
____________
(1) وقد ذكرها ابراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات، ونقلها البحاثة المعتزلى في ص 213 من المجلد الأول من شرح نهج البلاغة فليراجعها من اراد التفصيل ليعرف سوء نوايا معاوية وسوء منقلب النعمان في هذه الواقعة وانما اعرض أمير المؤمنين عن ابي هريرة فلم يكلمه لكونه لم يره اهلا لتزلفه بدينه الى معاوية، وعلم امير المؤمنين ما اراده معاوية من المكائد اذ أرسلهما اليه يطلبان منه قتلة عثمان فلم يجبهما بشئ لا سلبا ولا ايجاباً بل اعرض عن طلبهما، وتكلم مع النعمان في موضوع آخر وهذا من قوته في سياسته عليه السلام.
(2) اخرجه احمد بن جنبل من حديث أبي هريرة في: 2/282 من مسنده. وهو من الأباطيل بدليل قول تعالى: (فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء الى امر الله).
وفي ختام هذه الفظائع أخذ البيعة لمعاوية من أهل الحجاز واليمن عامة (1) فعندها باح أبو هريرة بما في صدره، واستراح الى بسر بن أرطاة بمكنون سره فوجد بسرمنه اخلاصاً لمعاوية. ونصحاً في أخد البيعة له من الناس، فولاه على المدينة (2) حين انصرف عنها وامر أهلها بطاعته ولم يزل بعدها يصلي بهم ويرى لنفسه الولاية عليهم حتى جاءهم جارية بن قدامة السعدي من قبل أمير المؤمنين في الفي فارس وأبو هريرة يصلي في الناس، فهرب من وجهه، فقال جارية (3) لو وجدت أبا سنور لقتلته.
وبلغ جارية ـ وهو في الحجاز ـ استشهاد أمير المؤمنين في الكوفة فأخذ البيعة من أهل المدينة للامام السبط أبي محمد الحسن الزكي المجتبى عليه السلام ثم عاد الى الكوفة فرجع أبو هريرة يصلي بالناس (4) واستفحل بعدها امره حيث انتهى الامر الى معاوية.
ـ 7 ـ
على عهد معاوية
على عهد معاوية
نزل أبو هريرة أيام معاوية الى جناب مريع، وانزل آماله منه منزل صدق
____________
(1) من اراد الوقوف على تفصيل هذه الفظائع والفجائع فعليه بص 116 حتى:121 من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي على ان كل من ارخ حوادث سنة الأربعين ذكرها كابن جرير وابن الأثير وغيرهما وهي من القضايا الثابتة من افعال معاوية ثبوت وقعتي الحرة والطف من ولده يزيد.
(2) كما نص عليه ابراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات، ونقله ابن ابي الحديد في اواخر صفحة: 128 من المجلد الأول من شرح النهج.
(3) كما نص عليه ابن الأثير عند ذكر سرية بسر الى الحجاز واليمن سنة 40 فراجع ص 3/153 من تاريخه الكامل.
(4) كما في الصفحة المتقدمة الذكر من كامل ابن الأثير.
لذلك نزل في كثير من الحديث على رغائبه، فحدث الناس في فضل معاوية وغيره أحاديث عجيبة.
وقد كثر وضع الحديث في تلك الدولة حسبما اقتضته دعايتها، وأوجبته سياستها في نكاية الهاشميين، وكثرت الكذابة يومئذ على رسول الله كما أنذر به صلى الله عليه واله وتطوروا فيما اختلفوه من الحديث حسبما أوحى اليهم وكان أبو هريرة في الرعيل الأول من هؤلاء، فحدث الناس في الفضائل احاديث منكرة، فمنها ما أخرجه ابن عساكر بطريقين وابن عدى بطريقين ومحمد بن عائذ بطريق خامس ومحمد بن عبد السمرقندي بطريق سادس ومحمد بن مبارك الصوري بطريق سابع والخطيب البغدادي بطريق ثامن كلهم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول ان الله ائتمن على وحيه ثلاثة أنا وجبرئيل ومعاوية؟!
ومنها: ما أخرجه الخطيب بالاسناد الى أبي هريرة قال: ناول النبي صلى الله عليه واله معاوية سهما فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة!
ومنها: ما أخرجه أبو العباس الوليد بن أحمد الزوزني في كتابه ـ شجرة العقل ـ من طريقين الى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول ان لأبي بكر قبة من درة بيضاء لها أربعة أبواب تخترقها رياح الرحمة ظاهرها عفو الله وباطنها رضوان الله كلما اشتاق الى الله انفتح له مصراع ينظر منه الى الله عز وجل.
ومنها: ما أخرجه ابن حيان بالاسناد الى أبي هريرة قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه واله من الغار يريد المدينة أخذ أبو بكر بغرزه فقال: ألا أبشرك يا أبا بكر؟ ان الله تعالى يتجلي للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة!.
ومنها: ما أخرجه ابن حبان أيضاً بالاسناد الى أبي هريرة قال: بينا جبرئيل مع النبي صلى الله عليه واله إذ مربهما أبو بكر فقال جبرئيل: هذا أبو بكر الصديق قال رسول الله صلى الله عليه واله: أتعرفه ياجبرئيل؟ قال: نعم انه في السماء لأشهر منه
في الأرض؛ وان الملائكة لتسميه حليم قريش وانه وزيرك في حياتك وخليفتك بعد مماتك.
ومنها: ما أخرجه الخطيب بالاسناد إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله تباشرت الملائكة يوم ولد أبو بكر الصديق واطلع الله الى جنة عدن فقال وعزتي وجلالي لا أدخلها إلا من أحب هذا المولود.
ومنها: ما أخرجه ابن عدي بالاسناد إلى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: عرج بي السماء فما مررت بسماء إلا وجدت مكتوباً فيها محمد رسول الله أبو بكر الصديق الحديث (1).
ومنها: ما أخرجه ابو الفرج ابن الجوزي بالاسناد الى أبي هريرة قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه واله بان الجنة والنار تفاخرتا فقالت النار للجنة أنا أعظم منك قدراً، لأن فيّ الفراعنة والجبابرة والملوك وابناؤهم، فاوحى الله الى الجنة أن قولي: بل لي الفضل إذ زينني الله لأبي بكر.
ومنها: ما أخرجه الخطيب بالاسناد الى أبي هريرة قال: خرج النبي صلى الله عليه واله متكئاً على علي بن أبي طالب فاستقبله أبو بكر وعمر فقال يا علي أتحب هذين الشيخين؟ قال: نعم؛ قال: احببهما تدخل الجنة!!.
ومنها: ما أخرجه الخطيب أيضاً في تاريخ بغداد وابن شاهين في سننه من طريقين الى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ان في السماء الدنيا ثمانين الف ملك يستغفرون لمن أحب أبا بكر وعمر، وفي السماء الثانية ثمانين الف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر.
ومنها: ما أخرجه الخطيب بالاسناد الى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: ان الله تعالى في السماء سبعين الف ملك يلعنون من شتم أبا بكر وعمر.
____________
(1) وأخرجه الخطيب في ترجمة محمد بن عبد الله المهري ص 445 من المجلد الخامس من تاريخ تغداد.
وهذه الأحاديث كلها باطلة اجماعاً وقولاً واحداً صرح بذلك كل من اخرجها ممن ذكرناهم.
والسيوطي نظمها باسانيدها ومتونها في سلك الأحاديث الموضوعة من لآليه المصنوعة غير أنهم لم يجعلوا الآفة فيها من أبي هريرة نفسه وانما جعلوها ممن نقلها عنه عملا برأيهم في كل من رأى النبي صلى الله عليه واله وروى عنه من المسلمين.
وكذلك فعلوا في سائر ما صنعته يداً أبي هريرة مما ضاق به ذرعهم نحو قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله: يقول: هذا جبرئيل يخبرني عن الله ما أحب أبا بكر وعمر الا مؤمن تقى ولا ابغضهما إلا منافق شقي (1).
وقوله: قال رسول الله صلى الله عليه واله خلقني الله من نوره وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر من نور أبي بكر وخلق أمتي من نور عمر وعمر سراج أهل الجنة (2).
وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين (3).
وقوله: ان النبي صلى الله عليه واله كان يقول: أصحابي كالنجوم من اقتدى بشئ
____________
(1) ان هذا الحديث معدود في الأباطيل باجماع اهل العلم وقد ذكره الذهبي في ترجمة ابراهيم بن مالك الأنصاري من ميزان الاعتدال فابطله وخسرت صفقة من اراد ان يعارض الحق بالباطل.
(2) وهذا كسابقه باطل بالاجماع، وقد ذكره الذهبي في ترجمة احمد السمرقندي من الميزان. فراجعه تعلم انه باطل مخالف لكتاب الله وخسر هناك المبطلون الذين يريدون معارضة الحق الواضح بالباطل الفاضح.
(3) وهذا كسابقه في البطلان. وقد ذكره الذهبي في ترجمة جيرون بن واقد الافريقي من الميزان فارسل بطلانه ارسال المسلمات.
منها أهتدى (1).
وقوله: قال رسول الله صلى الله عليه واله: انزل في الانجيل نعتي ونعت أصحابي أبي بكر وعمر وعثمان وعلى كرزع أخرج شطأه الآية (2).
إلى آخر ما كان يسترسل به من هذه المختلفات، وله في صحيحي البخاري ومسلم احاديث افرغها على هذا القالب. وحاكها على هذا المنوال فراجعها في الفصل 11 من هذا الاملاء.
ـ 8 ـ
أيادي بني امية عليه
أيادي بني امية عليه
تتمثل لك نعمهم عليه إذا امعنت النظر في حاليه، حاله قبل دولتهم حيث كان ذليلا مهيناً ينظر الى القمل يدب على نمرته (3) وحاله على عهدهم حيث اخذوا بضبعيه واطلقوا عنه ربقة الخمول فكسوه الخز (4) والساج وجعلوه
____________
(1) نقله الذهبي في ترجمة جعفر بن عبد الواحد القاضي من ميزانه ونيص ثمة على انه من بلاياء.
(2) تجد هذا الحديث في ترجمة محمد بن موسى بن عطاء الدمياطي من ميزان الذهبي وتجد ثمة بطلانه لكن الجمهور يحيلون البلاء في اباطيل ابي هريرة على الرواة عنه.
(3) هذا مأخوذ من قول ابي هريرة: فنزعت نمرة على ظهري فبسطتها بيني وبينه صلى الله عليه واله حتى كأني انظر الى القمل يدب عليها الحديث اخرجه ابو نعيم في احوال ابي هريرة: 1/381 من حليته.
اخرج ابن سعد في ترجمة ابي هريرة من طبقاته عن وهب بن كيسان وعن قتادة والمغيرة ان ابا هريرة كان يلس الخز.
يزر ازراره بالديباج (1) والبسوه الكتان المشيق (2) وبنوا القصر في العقيق (3) وطوقوه ببرهم، وناطوا نعمهم قلائد في عنقه واذاعوا ذكره، ونوهوا باسمه، وولوه على المدينة الطيبة مدينة النبي (4) وانكحوه ايام ولايته عليها بسرة بنت غزوان بن جابر بن وهب المازنية اخت الأمير عتبة بن غزوان (5) وما كان ليحلم بذلك، ولا ليسنح في امانيه، وقد كان يخدمها بطعام بطنه ويكدح في خدمتها حافياً:
____________
(1) هو الطليلسان الأخضر، وقيل الأسود، وقيل المقور ينسج كذلك، وفي الاساس لبسوا السيجان وهي الطيالسة المدورة الواسعة، وقد جاء في ترجمة ابي هريرة من طبقات ابن سعد عن سعيد قال: رأيت على ابي هريرة ساجا مزروراً بديباج.
(2) اخرج البخاري: 4/175 من صحيحه في اواخر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة عن محمد بن سيرين قال: كنا عند ابي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان.
(3) فيه مات كما هو منصوص عليه في كل من اصابة ابن حجر ومعارف ابن قتيبة وطبقات ابن سعد اثناء ترجمتهم اياه.
(4) فيما اخرجه الامام احمد في: 2/430 من مسنده عن محمد ابن زياد واخرجه ابن قتيبة في ترجمة ابي هريرة من معارفه عن ابي رافع. واورده الامام ابو جعفر الاسكافي كما في: ص359 من المجلد الاول من شرح النهج الحميدي طبع مصر.
(5) هو حليف بني عبد شمس الذي ولاه عمر رضي الله عنه في الفتوح فاختط البصرة وكان اميرها، وفتح فتوحا وهو من مشاهير الصحابة والابطال مات على عهد عمر، وإنما تزوج ابو هريرة اخته بعد موته بزمان، وقد ذكر ابن حجر العسقلاني بسرة هذه في القسم الاول من الاصابة وذكر قصة أبي هريرة معها فقال: وكانت قد استأجرته في العهد النبوي ثم تزوجها بعد ذلك لما كان مروان يستخلفه في امرة المدينة على عهد معاوية.
قال مضارب بن جزء (1): كنت اسير في الليل فاذا رجل يكبر فلحقته فاذا هو أبو هريرة، فقلت: ماهذا؟. قال: اشكر الله على ان كنت اجيراً لبسرة بنت غزوان بطعام بطني؛ فكنت إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم والآن تزوجتها فأنا الأن اركب، فاذا نزلت خدمتني «قال» وكانت اذا اتت على مكان سهل نزلت فقالت: لا اريم حتى تجعل لي عصيدة، فها اناذا إذا اتيت على نحو من مكانها قلت لها: لا اريم حتى تجعلي لي عصيدة (2).
وكان كثيراً ما يقول ـ وهو أمير المدينة ـ: نشأت يتيما، وهاجرت مسكيناً، وكنت اجيراً لبسرة بن غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي، فكنت اخدم اذا نزلوا، واحدوا اذا ركبوا فزوجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة اماما (3).
وقال مرة: اكريت نفسي من ابنة غزوان على الطعام بطني وعقبة رجلي قال: فكانت تكلفني ان اركب قائماً؛ واورد حافياً، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله فكلفتها ان تركب قائمة وان تورد حافية (4)!!!
وصلى بالناس يوماً فلما سلم رفع صوته فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة اماما، بعد ان كان اجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله (5).
____________
(1) فيما اخرجه أبو العباس السراج في تاريخه بسند صحيح ونقله العسقلاني في ترجمة أبي هريرة من اصابته.
(2) اخرجه ابن خزيمة، ونقله ابن حجر في ترجمة أبي هريرة من الاصابة.
(3) أخرجه ابن سعد في أوائل ترجمة أبي هريرة: ص53 من القسم الثاني من الجزء الرابع من الطبقات.
(4) أخرج ابن سعد هذا الحديث في أوائل الصفحة الآنفة الذكر.
(5) أخرجه أبو نعيم الاصفهاني في ترجمة أبي هريرة آخر ص1/379 من حليته.
وقام مرة على منبر رسول الله صلى الله عليه واله وهو أمير المدينة فقال: الحمد لله الذي اطعمني الخمير، وألبسني الحرير؛ وزوجني بنت غزوان بعد ما كنت اجيراً لها بطعام بطني، فأرحلتني فأرحلتها كما أرحلتني الحديث. (1).
ـ 9 ـ
تطوره في شكر أياديهم
تطوره في شكر أياديهم
استعبد بنو أمية أبا هريرة ببرهم، فملكوا قيادة. واحتلوا سمعه وبصره وفؤاده، فاذا هو لسان دعايتهم في سياستهم؛ يتطور فيها على ما تقتضيه اهواؤهم.
فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم، كما سمعته في الفصل الخامس والفصل السابع (2) من هذا الاملاء.
وتارة يلفق احاديث في فضائل الخليفتين نزولا على رغائب معاوية وفئته الباغية. اذ كانت لهم مقاصد سياسية ضد الوصي وآل النبي لا تتسق لهم ـ فيما كانوا يظنون ـ إلا بالاشادة بتفضيل الخليفتين، فاقأت في ذلك احاديث اوردنا بعضها في الفصل السابع من املائنا هذا.
وحسبك مما لم نورده ثمة حديثه في تأمير أبي بكر على الحج سنة براءة ـ وهي سنة تسع للهجرة ـ وحديثه في أن عمر كان محدثاً تكلمه الملائكة.
وقد اقتضت سياسة الأمويين في نكاية الهاشميين تثبيت هذين الحديثين واذاعتهما بكل مالمعاوية وأعوانه. ومقوية سلطانه من وسيلة أو حلية، فبلغوا
____________
(1) أخرجه أبو نعيم في أحوال أبي هريرة: 1/384 من الحلية.
(2) الفصل الخامس يتعلق باحواله على عهد عثمان، والسابع يتعلق باحواله على عهد معاوية.
في ذلك ماشاء حولهم ولحولهم حتى أخرجتهما الصحاح؛ وستسمعهما في الفصل 11 حيث نوردهما ونبسط القول فيهما على ما يوجبه العلم، وتقتضيه قواعده ان شاء الله تعالى.
وتارة يقتضب أحاديث ضد أمير المؤمنين جرياً على مقتضى تلك السياسة كقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: لم تحبس الشمس أو ترد لأحد إلا ليوشع ابن نون ليالي سار الى بيت المقدس أهـ (1).
وقوله: قام رسول الله صلى الله عليه واله حين أنزل الله عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فقال: يا معشر قريش الحديث، بتره ابو هريرة فلم يعج على نصه الصريح تحريفاً للكلم عن مواضعه جريا على مقتضيات السياسة الأموية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقوله: إن رسول الله صلى الله عليه واله قال: لايقتسم ورثني ماتركت. الحديث
وقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمه أبي طالب: قل لا إله إلا الله الحديث وآخره فأنزل الله تعالى: (انك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (2) الى كثير من المختلقات التي أريد بها نكاية الوصي وأهل بيت النبي.
قال الامام أبو جعفر الاسكافي (3): إن معاوية حمل قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في على تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزيبر إلى آخر كلامه.
____________
(1) أخرجه الخطيب في ترجمة أسود بن عامر: 7/35 من تاريخ بغداد، وفي ترجمة سعيد بن عثمان الحناط: 9/99 عن أبي هريرة.
(2) سنفصل القول في هذه الاحاديث الثلاثة، حيث نوردها في الفصل 11 من هذا الاملاء فراجع.
(3) كما في: 1/358 من شرح نهج البلاغة الحميدي.
وقال (1): لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً!! وقال يا أهل العراق اتزعمون اني كذب على الله ورسوله واحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول: ان لكل نبي حرماً وان المدينة حرمي فمن احدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين «قال» واشهد بالله ان علياً احدث فيها!! فلما بلغ معاوية قوله أجازه واكرمه وولاه امارة المدينة أهـ (2).
وتارة يرتجل أحاديث يدافع بها عن منافق بني أمية الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه واله في كثير من مواقفه ليسجل عليهم بذلك خزياً يأمن به على الدين من نفاقهم وعلى الأمة من عيثهم: (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى).
لكن أبا هريرة تزلف الى مروان ومعاوية وأوليائهما فأنشأ يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول: اللهم انما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له وقربة تقربه بها اليك يوم القيامة.
وقد عمل مروان وبنوه في تعداد أسانيده وتكثير طرقه اعمالا جبارة لم يألوا فيها جهداً، ولم يدخروا وسعاً؛ حتى أخرجه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد.
____________
(1) كما في: 359 من المجلد المذكور من شرح النهج.
(2) وروى سفيان الثورى عن عبد الرحمن بن قاسم عن عمر بن عبد الغفار ان أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس اليه فجاءه شاب من الكوفة ـ لعله الأصبغ بن نباتة ـ فجلس اليه فقال: يا أبا هريرة أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ فقال: اللهم نعم قال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه ثم قام عنه وانصرف.
ولمروان وبنيه في رفع مستوى أبي هريرة وتفضيله على من سواه في الحفظ والضبط والاتقان والورع أعمال كان لها أثرها الى يومنا هذا.
فمنها: أن مروان كان يزعم انه أجلس كاتبه في مكان لايراه فيه أحد؛ ثم دعا أبا هريرة فجعل يسأله عن أشياء وأكثر في سؤاله وأبو هريرة يحدثه في الجواب عن رسول الله وكاتب مروان ـ واسمه زعيزعة (1) ـ يكتب من حيث لا يشعر به أحد أبداً فكتب أحاديث جمة ثم أمهله مروان حولا كاملا فسأله تلك المسائل كلها، فأجابه أبو هريرة تلك الأجوبة بألفاظها لم ينقص ولم يزد وأذاع مروان وكاتبه هذه الأكذوبة بين طغام أهل الشام فسارت كل مسير حتى أخرجها الحاكم في أحوال أبي هريرة من مستدركه (2).
ومنها: أن مروان لما أراد أن يجلب على بني هاشم بخيله ورجله ليمنعهم من دفن الإمام أبي محمد الحسن المجتبى ـ عند جده رسول الله صلى الله عليه واله أوعز إلى أبي هريرة ـ من تدجيله ـ أن يعارضه ويغلظ له القول في ذلك علانية؛ تمويهاً على العامة وسواد الناس بأن له منزلة الصديقين لا تأخذه في الله ورسوله سطوة ولا تمنعه عن الانتصار لهما قوة.
وحين قام أبو هريرة بهذه المعارضة، أظهر مروان الغضب منه، مكان بينهما صحب رياء، وغيظ تصنع؛ اشتد أبو هريرة فيهما احتجاجا على مروان بمنزلته من رسول الله صلى الله عليه واله التي لم تكن لخاصة أصحابه وذويه وبوعيه عنه صلى الله عليه واله وحفظه الذي فاق به السابقين الأولين كعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير
____________
(1) وكنيته ابو زعبره.
(2): 3/510.
(3) في حديث أخرجه ابن سعد من طريق الوليد بن رباح، ونقله ابن حجر في ترجمة ابي هريرة من اصابته، وسنورده بالفاظه في فضائله من هذا الاملاء معلقين عليه مالا يسعنار اغفاله.
وأمثالهم. واسترسل في خصائصه التي توجب له أسمى منازل المقربين؛ فانتهت الخصومة بينهما ببخوع مروان لمنزلة أبي هريرة في الإسلام، ومكانته في العالم بالسنن، برأئى الناس ببخوعه لفضل أبي هريرة ترويجاً لسلعته التي كان مروان ومعاوية وبنوهما يحاربون بها الحسن والحسين وأباهما وبنيهما. وكانت من أنجع الدعايات في تلك السياسات: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
ـ 10 ـ
كمية حديثه
كمية حديثه
أجمع أهل الحديث ـ كما في ترجمتة من (الإصابة) (1) وغيرها ـ علىانه اكثر الصحابة حديثاً، وقد ضبط الجهابذة من الحفظة الاثبات حديثه؛ فكان خمسة آلاف وثلاثمائة وسبعين مسنداً. وله في البخاري فقط اربعمائة وستة واربعين حديثاً (2).
وقد نظرنا في مجموع ما روى من الحديث عن الخلفاء الأربعة فوجدناه
____________
(1) راجع السطر الأخير: 4/240 من الاصابة المطبوع في هامشها كتاب الاستعياب.
(2) راجع من إرشاد الساري شرح أول حديث لأبي هريرة أخرجه البخاري في صحيحه وهو باب امور الايمان من كتاب الايمان: 1/212 من الأشاد للشارح القسطلاني تجد النص ثمة على أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه واله: 5374 حديثاً وان له في صحيح البخاري فقط اربعمائة وستة واربعين حديثاً وضبظ ابن حزم ايضا مجموع ما حدث به أبو هريرة فكان كما سمعت: 5374 مسنداً فراجع: 4/138 من فصل ابن حزم أثناء كلامه في وجوه المفاضلة.
بالنسبة إلى حديث أبي هريرة وحده أقل من السبعة والعشرين في المائة؛ لأن جميع ما روى عن أبي بكر انما هو مائة واثنان واربعون حديثاً (1) وكل ما اسند الى عمر انما هو خمسائة وسبعة وثلاثين حديثاً (2) وكل ما لعثمان مائة وستة واربعين حديثاً (3) وكلما رووه عن على خمسمائة وستة وثمانين مسنداً (4) فهذه الف واربعمائة واحد عشر حديثاً، فاذا نسبتها إلى الحديث أبي هريرة وحده ـ وقد عرفت انه: 5374 ـ تجد الأمر كما قلناه.
فلينظر ناظر بعقله في ابي هريرة، وتأخره في اسلامه، وخموله في حسبه وأميته، وما إلى ذلك مما يوجب اقلاله. ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة وسبقهم واختصاصهم، وحضورهم تشريع الاحكام، وحسن بلائهم في اثنتين وخمسين سنة، ثلاث وعشرين كانت بخدمة رسول الله صلى الله عليه واله وتسعة وعشرين من بعده ساسوا فيها الأمة وسادوا الامم، وفتح الله لهم ملك كسرى وقيصر؛ فمدنوا المدن؛ ومصروا الأمصار، ونشروا دعوة الإسلام وصدعوا بأحكامه،
____________
(1) ضبطها الجهابذة، فكانت بهذا العدد، وممن صرح بعدتها جلال الدين السيوطي في أحوال أبي بكر من كتابه(تاريخ الخلفاء) وقد أوردها ثمة باجمعها في فصل افرده لها. وصبطها أيضاً العلامة النووي في التهذيب وابن حرم الظاهري في: 4/137 من الفصل في الملل والنحل فنص على انها بهذا العدد، والذهبي صرح (في ترجمة ابراهيم بن سعيد الجوهري من ميزان الاعتدال): بانه لايصح لأبي بكر عشرون حديثاً.
(2) قال السيوطي في أوائل ترجمة عمر من تاريخ الخلفاء: وروى له عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثا، وضبطها ابن حزم بهذا العدد في: 4/138 من فصله وقال: إنما يصح منها نحو خمسين.
(3) نص على ذلك جلال الدين السيوطي في أوائل أحوال عثمان من تاريخ الخلفاء.
(4) كما نص عليه السيوطي في أوائل ترجمة على من تاريخ الخلفاء وصرح به ابن حزم في: 4/137 من فصله.
وأذاعوا السنن، ينحدر عنهم السيل، ولا يرقى اليهم الطير؛ فكيف يمكن والحال هذه أن يكون المأثور عن أبي هريرة وحده أضعاف المأثور عنهم جميعاً افتونا يا اولي الالباب؟!.
وليس ابو هريرة كعائشة وان اكثرت أيضاً؛ فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل إسلام أبي هريرة بعشر سنين (1) فكانت في مهبط الوحي والتنزيل ومختلف جبرائيل وميكائيل أربعة عشر عاماً، وماتت قبل موت أبي هريرة بيسير (2).
وشتان بين الصحبتين ويبن الفطنتين، اما امر الصحبتين فمعلوم، واما الفطنتان فقد كان فهم عائشة يبارى سمعها. وقلبها يسبق اذنها؛ فلا أرشح منها فؤاداً، ولا أسرع تناولا، ما نزل بها شئ إلا انشدت فيه شعراً، وعن عروة ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة. وعن مسروق رأيت مشيخة من أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض.
على انها اضطرب إلى نشر حديثها إذ بثت دعاتها في الأمصار، وقادت إلى البصرة ذلك العسكر الجرار. ومع هذا فان جميع ما روى عنها انما هو عشرة
____________
(1) اخرج ابن البر في احوال عائشة من الاستيعاب عن ابن شهاب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج عائشة في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين وعرس بها في المدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهراً من مهاجرته إلى المدينة أهـ فيكون زواجها قبل أسلام أبي هريرة بعشر سنين، إذ لاريب في ان اسلامه انما كان سنة سبع.
(2) توقيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة سبع وخمسين أو ثمان وخمسين قبيل وفاة أبي هريرة بيسير، وهو الذي صلى عليها بامر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان والياً على المدينة من قبل عمه معاوية اراد كرام أبي هريرة فامره بالصلاة عليها ودفنت بالبقيع.
مسانيد ومائتا مسند والفا مسند (1) فحديثها أقل من نصف حديث أبي هريرة.
ولو ضمت حديثها وحديث أم سلمة مع بقائها الى ما بعد وقعة الطف، وجمعت ذلك كله إلى حديث البقية من أمهات المؤمنين؛ وحديث سيدى شباب أهل الجنة وسيدة نساء العالمين وحديث الأربعة من خلفاء المسلمين ما كان كله إلا دون حديث أبي هريرة وحده! وهذا أمر مهول الفت اليه ارباب العقول.
على انه كان مع ذلك يزعم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضى اليه بأحاديث لن يميط حجابها لأحد ولا ينالها منه متسقط (2) فهي دخلة ضميره ودفينة صدره وابو هريرة حصين الصدر: بعيد غور الضمير! كما تعلمون: ولذا قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، واما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (3).
وقال: لو أنباتكم بكل ما أعلم الرماني الناس بالخزف، وقالوا: أبو هريرة مجنون.
وقال: لو حدثتكم بكل مافي جوفي لرميتوني بالبعر.
وقال: يقولون اكثرت يا أبا هريرة والذي نفسي بيده لوحدثتكم بكل
____________
(1) فيما ضبطه ابن حزم الظاهري في: 4/138 من فصله وغير واحد من الحفظة وأهل الضبط، واما قول القائل:
(2) يقال: تسقطه عن سره، أي احتال له اباح به.
(3) أخرجه البخاري في باب حفظ العلم من كتاب العلم: 1/24 من صحيحه.
شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرميتموني بالقشع ـ يعني المزابل ـ ثم ما ناظرتموني (1).
وقال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث ما حدثتكم بها ولو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالأحجار (2).
قال: حفظت من رسول الله خمسة جرب فأخرجت منها جرابين ولو أخرجت الثالث لرجمتموني بالحجارة (3).
قلت: إن أبا هريرة لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولي عهده، ولاخليفته من بعده، ليؤثره باسراره، ويفضي اليه من العلوم مالم يفض بها إلى أحد من خاصته.
وما الفائدة بافضاء تلك الأسرار اليه؟! وهو رجل ضعيف ذو مهانة تمنعه عن أن ينبس في شئ منها ببنت شفة. فاذا نبس رجم بالحجارة ورمى بالبعر وبالمزابل. واذا حدث بشئ من تلك العلوم قطعوا منه البلعوم.
وهلا أفضى بها إلى الخلفاء من بعده؛ الغزاة الفاتحين الذين عنت لهم وجوه الأمم، وخضعت لأقوالهم رقاب العرب والعجم، وساقوا الناس الى ما أرادوا بعضاً واحدة، فانهم أولى بما يدعيه أبو هريرة إذ لو كانت عندهم تلك الاسرار لانتشرت انتشار الشمس في الاقطار، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل عبثاً
____________
(1) هذه الاحاديث الثلاثة ذوات الخزف والبعر والقشع أخرجها بالاسناد اليه ابن سعد في ترجمته: 57 من القسم الثاني من الجزء الرابع من الطبقات.
(2) أخرجه الحاكم في ترجمة أبي هريرة من المستدرك، فراجع: 509 من جزئه الثالث وقد صححه، وكذلك فعل الذهبي في تلخيصه وما أعز نفس أبي هريرة عليه إذ يقول: لرجمتموني بالأحجار بالخزف بالبعر بالمزابل. وكذلك حين يحدث عن نفسه فيقول: يجيء الجائي فيضع رجله على عنقي. وحين يحدث عن بطنه وقمله وسائر شؤونه.
(3) أخرجه أبو نعيم في أحوال أبي هريرة: 381 من حليته.
فيودعها حيث تضيع سدى لاينتفع بها أحد أبداً، ومن هو أبو هريرة؟!.. ليختص بهذه الحبوة دون السابقين الأولين (والسابقون السابقون أولئك المقربون). على أن أبا هريرة كان كثيراً مايقول: إن ابا هريرة لايكتم ولايكتب (1) فكيف يجتمع هذا القول منه مع قوله: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين: فاما أحدهما فبثثته، وأما الآخر قطع هذا البلعوم. إلى آخر أقواله في هذا المعنى الصريحة بأنه كان يكتم!؟.
ولنسأل أولى البحث عن الاسرار الالهية التي أفضاها صلى الله عليه وآله وسلم الى أبي هريرة فكان يكتمها خوفاً على حياته، أو اشفاقاً على كرامته، فهل كانت من سنخ الأسرار التي عهد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى وليه ووصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموراً تتعلق بالخلافة وتختص بالخلفاء من بعده؟! أم كانت من سنخ آخر؟. فان كانت من السنخ الأول فلماذا كان منصرفاً عنها كل الانصراف مخالفاً لمقتضياتها كل الخلاف؟؟ وكان رأيه فيما هنالك رأى الجمهور، مسترسلاً معهم في كل الأمور، وإن كانت النسخ الثاني فلا خوف عليه وان حدث بالطامات أو جاء بالمخزيات!.
ألم يحدث بنوم النبي عن صلاة الصبح؟ وعروض الشيطان له صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة ليقطعها عليه؟!.
ألم يروانه سهى فصلى الرباعية ثنائية! فقيل له: انسيت أم قصرت الصلاة فقال: لم أنس ولم نقصر؟.
ألم يخبر أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي ويسب ويلعن ويجلد على الغضب من لا يستحق ذلك؟.
____________
(1) اخرجه ابن سعد: 119 من القسم الثاني من الجزء الثاني من طبقاته عند ذكر أبي هريرة في باب أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ألم يصم الأنبياء بما لا يجوّزه عليهم شرع ولا عقل؟ حتى روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: نحن احق بالشك من ابراهيم، وروى عن لوط ما يستلزم ضعف ثقته بالله تعالى.
ألم يتسور على آدم؛ ونوح؛ وابراهيم؛وموسى؛ وعيسى بما يجب تنزيههم عنه؟.
ألم ينسب الى كليم الله ونجيه موسى عليه السلام: انه لطم ملك الموت ففقأ عينه وانه اشتد يركض مرة وهو عريان فمر على بني اسرائيل فنظروا إلى سواته؟
ألم يحدث عن سليمان بن داود انه نقض حكم أبيه؟ وانه أبى أن يعلق امره على مشيئة الله تعالى ففشل في أمره.
ألم يحدث عن الله عز وجل بما لايجوز عليه شرعاً ولاعقلا؟ كقوله؟ لا تمتلئ جهنم حتى يضع الله رجله فيها؟ وكقوله في حديث أهل المحشر: فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعود بالله منك ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفون: فيقولون: أنت ربنا؟ وكقوله: خلق آدم على صورة الرحمن! وقوله: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً في سبعة اذرع عرضاَ؟
الى كثير مما ستسمعه في الفصل الآتي من هذه الفظائع التي تقطع البلعوم فما باله يحدث بها مطمئناً كل الاطمئنان؟. بل ممتناً بها على الأمة كل الامتنان وقد حدث بالخرافات، فلم يرجم بحجر، ولم يرم بقشع ولا بعر كما يعلمه من ألمّ بأحواله، ولكن منينا بقوم لا ينصفون، فانا لله وانا اليه راجعون.
____________
(1) فيما حدث به وهب بن منبه عن اخيه همام عن ابي هريرة، واخرجه البخاري في باب كتابه العلم من كتاب العلم: 1/22 من صحيحه.
ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم احد اكثر حديثاً عنه مني الا ما كان من عبد الله بن عمرو (بن العاص) فانه كان يكتب ولا اكتب أهـ.
يعترف ان عبد الله هذا كان اكثر منه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ترى؛ وقد بحثنا عن حديث عبد الله بن عمرو فوجدناه سبعمائة مسند لايزيد على هذا العدد شيئاً (1).
فهو دون السبع من حديث أبي هريرة كما لايخفى.
وقد أرتج على العلماء الاعلام باب الاعتذار عن أبي هريرة في هذا التهافت، لكن ابن حجر القسطلاني والشيخ زكريا الانصاري قد اعتذرا عند انتهائهما الى هذا الحديث في شرحيهما (2) بأن عبد الله بن عمرو بن العاص سكن مصر؛ وكان الواردون اليها قليلا فقلت روايته، بخلاف أبي هريرة، فانه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة؛ فكثرت روايته.
وأنت تعلم ان كلام أبي هريرة بظاهره، بل بصريحه يحبط هذا الاعتذار الاتراه يقول: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه مني الا ما كان من عبد الله بن عمرو، فان معناه ـ كما في ارشاد الساري وفي تحفة الباري كليهما ـ ما أحد من أصحاب النبي حديثه أكثر من حديثي الا أحاديث حصلت من عبد الله فانها اكثر من حديثي. واذا كان رجل يعترف بأن الاحاديث التي حصلت من عبد الله اكثر من حديثه فأي وجه لما اعتذر به الشارحان؟.
على أن مقام عبد الله في مصر كان ادعى لكثرة روايته اذ كان له ثمة
____________
(1) وقد ضبطه القسطلاني في شرح هذا الحديث من كتابه ـ ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري:373 من جزئه الاول ـ فكان بهذا العدد.
وهما ارشاد الساري للقسطلاني وتحفة الباري لزكريا الانصاري وقد طبعا معا في اثنى عشر جزءاً. ووضع بالهامش متن صحيح مسلم وشرحه للنووي. والعذر المذكور تجده في: 373 من الجزء الأول.
المكانة العالمية السامية. حيث لم يكن هناك سواه ممن تعرفهم الناس من الصحابة إلانزر يسير؛ أو عابر سبيل لذلك تبوأ مقام المرجع الوحيد في شرائع الإسلام وعلوم الكتاب والسنة، وشتان بين مقامه في مصر، ومقام أبي هريرة في المدينة، اذ كان لعبد الله في نفوس أهل مصر منزلة العالم المرشد الصدوق وعز ابن الحاكم الفاتح عنوة، أما أبو هريرة في المدينة، فقد كان كواحد من الوف الصحابة الذين كانوا على عهده، وكانت وفود المدينة انما تأتي مشاهير الصحابة وأبو هريرة لم يكن منهم، على انه كان متهما عندهم وكثيراً ماكانوا ينقمون عليه اكثاره على رسول الله صلى الله عليه وآله فيقولون: ان أبا هريرة يكثر الحديث، ويقولون: ما للمهاجرين والانصار لايحدثون مثل أحاديثه (1) فمقامه في المدينة والحال هذه كان أدعي لقلة روايته، فمن الغريب أن يكون حديثه اكثر من حديث عبد الله، وخصوصاً بعد اعترافه له. وبعد العلم بأن عبد الله عمّر بعد أبي هريرة زمناً ليس بالقصير (2).
والحق ان أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في اوائل امره بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حين لم يكن مفرطاً هذا الافراط الفاحش؛ فانه انما تفاقم افراطه، وطغى فيه على عهد معاوية، حيث لا أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا غيرهم من شيوخ الصحابة الذين كان يخشاهم أبو هريرة كما اشرنا اليه وسنوضحه في محله من هذا الاملاء ان شاء الله تعالى.
____________
(1) كان ابو هريرة يتذمر منهم ويشكوهم الى الله فيما اخرجه البخاري عنه في آخر المزارعة من الجزء الثاني من صحيحه.
(2) لأن أبا هريرة توفي ـ كما في آخر ترجمة من الاصابة ـ سنة سبع وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة تسع وخمسين أما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد مات ـ كما في ترجمة من الاصابة ـ سنة خمس وستين، وقيل سنة ثمان وستين وقيل سنة تسع وستين، وقيل ـ كما في ترجمة من كتاب القيسراني في رجال الصحيحين ـ مات سنة اثنين وتسعين، والله تعالى أعلم.
كيفية حديثه
الأذواق الفنية لا تسيغ كثيراً من أساليب أبي هريرة في حديثه والمقاييس العلمية عقلية لاتقرها. وحسبك عنواناً لهذه الحقيقة اربعون حديثاً صحت عنه، اتلوها الآن عليك لتمعن فيها وفيما علقناه عليها متحرراً متجرداً ولك بعد ذلك رأيك: ـ
1ـ خلق الله آدم على صورته
أخرج الشيخان البخاري ومسلم (1) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً. وزاد أحمد (2) من طريق سعد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً: في سبعة أذرع عرضاً، قال: فلما خلقه قال: اذهب فسلم على اولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا السلام عليك ورحمة الله، قال: فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن أهـ.
____________
(1) راجع من البخاري الحديث الأول من كتاب الاستئذان في ص57 من جزئه الرابع. ومن صحيح مسلم باب يدخل الجنة اقوام افئدتهم مثل افئدة الطير من كتاب الجنة وصفة نعيمها: 481 من جزئه الثاني. واخرجه الامام احمد من حديث أبي هريرة في 2/315 من مسنده من حديث طويل يشتمل على امور كثيرة.
(2) كما آخر: 7/90 من ارشاد الساري في باب خلق آدم وذريته من كتاب بدء الخلق.
وهذا مما لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله ولا على غيره من الأنبياء ولا على أوصيائهم عليهم السلام. ولعل أبا هريرة أنما أخذه عن اليهود (1) بواسطة صديقه كعب الأحبار أو غيره، فان مضمون هذا الحديث إنما هو عين الفقرة السابعة والعشرين من الاصحاح الأول من أصحاحات التكوين من كتاب اليهود ـ العهد القديم ـ واليك نصها بعين لفظه قال: فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وانثى خلقهم أ هـ.
تقدس الله عن الصورة والكيفية والشبيه. وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وربما تاولوا الحديث فارجعوا ضمير صورته إلى آدم نفسه لا إلى الله تبارك وتعالى فيكون المعنى ان الله عز وجل وعلا خلقه في الجنة على صورته التي كان عليها بعد هبوطه منها إذ نشأه تامأ مستوياً طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعه اذرع لم يتغير من حال الى حال. ولم يتطور أطواراً مختلفه كذريته فلم يكن نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً كسيت لحماً ثم جنيناً ثم رضيعاً ثم فطيما ثم مراهقاً ثم رجلاً حتى تم طوله وعرضه. بل خلقه دفعة واحدة على صورته التي رآه عليها بنوه في الأرض.
هذا غاية ما يمكن أن يقوله أهل التنزيه في تأويل هذا الحديث لولا وروده عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: خلق آدم صورة الرحمن (2) ومجيؤه من
____________
(1) وكان في كثير من حديثه عيالا على اليهود، الا تراه يرسل قوله: ان سيحان وجيحان والفرات ونيل مصر كلها من الجنة، أخرج هذا عنه الخطيب في ترجمة محمد بن الحسين المطبخي في ص235 من المجلد الثاني من تاريخ بغداد وهذا مأخوذ عن العهد القديم.
(2) هذا الحديث بهذا اللفظ مستفيض عن أبي هريرة وقد جعله القسطلاني قرينة على ان الهاء من (صورته) في قول ابي هريرة: خلق الله آدم على صورته انما هي لله تعالى لا لآدم فراجع: 10/491 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري.
طريق الجمهور بسند آخر مرفوعاً أيضاً بلفظ: ان موسى عليه السلام ضرب الحجر لبني اسرائيل فتفجر وقال: اشربوا يا حمير فاوحى الله تعالى اليه عمدت الى خلق خلقتهم على صورتي فشبهتهم بالحمير الحديث. (1).
وهذا ما اخرج الجمهور ولم يبق لمدافعتهم عن أبي هريرة بالتأويل الذي قلناه محلا، ولذا أسلموا باعادة الضمير في صورته الى الله تعالى متأولين تاولا آخر.
وحاصله ان المراد من قوله: خلق الله آدم على صورته؛ وقوله؛ خلق آدم على صورة الرحمن، وقوله في الحديث الأخير: خلقتهم على صورتي: أنه تعالى خلق آدم وبنيه على صفة الله. فان الله عز وجل حيٌّ سميع بصير متكلم عالم مريد كاره وكذلك آدم وبنوه.
وأنت تعلم انهم وقعوا فيما فروا منه لأن صفة الله عز وجل تنزهت عن التشبيه باجماع أهل التنزيه. ولا سيما على قولنا بأن صفاته عين ذاته، وهو الحق بحكم العقل والنقل كما هو مقرر في محله من اصولنا.
على أن أبا هريرة قد تطور في هذا الحديث كما هي عادته فتارة رواه كما سمعت، وتارة رواه بلفظ: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فان الله خلق آدم على صورته (2)، ومرة رواه بلفظ: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ولا يقل: قبح الله وجهك ووجه من اشبه وجهك فان الله خلق أدم على صورته أ هـ (3).
____________
(1) اورده ابن قتيبة في ص280 من كتابه تأويل مختلف الحديث وجعله دليلا على ان صمير صورته في قوله: خلق الله آدم على صورته راجع الى الله لا إلى آدم.
(2) اخرجه بهذه الالفاظ عن ابي هريرة بطرق اليه كثيرة غير واحد من حفظة الآثار، فراجع: 2/397 من صحيح مسلم في باب النهي عن ضرب الوجه تجده بعين لفظه.
(3) اخرجه البخاري في الأدب المفرد ورواه احمد بالطرق الصحيحة عن ابي هريرة: 2/434 من مسنده.
ولا يخفي انه قطع بهذا على اوليائه خط الرجعة الى كل من التأويل فانك تعلم انه لايصح ارجاع الضمير في صورته الى آدم في كل من الروايتين بل لابد من ارجاعه الى الله عز وجل ليستقيم الكلام، ويصح تعليل النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه (1) وتعلم ايضاً ان خلق آدم حياً سميعاً بصيراً متكلما عالماً مريداً كارها لا يوجب اختصاص الوجه بالصون دون باقي الجوارح، فحمل تينك الروايتين على واحد من ذينك التأويلين مما لا وجه له بل لا يكون للروايتين معنى إلا اذا اريد بهما صون وجه الانسان، لكونه يشبه وجه الله. تعالى الله وتقدست ذاته وصفاته وأسماؤه.
ولذلك تحير المحققون من أهل التنزيه من الجمهور، وتوقفوا في معاني هذه الأحاديث كلها، واحالوا العلم بالمراد منها الى الله تعالى الذي أحاط بكل شئ علما، كما صرح به شارحوا الصحيحين عند انتهائهم الى هذا الحديث من شروحهم فراجع (2).
تنبيهان
(أحدهما): انه إذا كان طول أدم ستين ذراعاً يجب مع تناسب اعضائه
____________
(1) ليت ابا هريرة علل النهي عن ضرب الوجه بلطفه وجماله وجمعه للاعضاء النفيسة من السمع والبصر والأنف والفم والشفتين والأسنان والحاجبين والجبهة وغيرها فان اكثر الادراك انما يكون بها فقد يعطلها الضرب أو ينقصها وقد يشوه الوجه وتشويه الوجه لكونه بارزاً لا يمكن ستره لكن ابا هريرة انما يؤثر التحريف من حيث يدري اولياؤه أو لا يدرون فانا لله وانا اليه راجعون.
(2) قال الامام النووي: وان من العلماء من يمسك عن تأويل هذه الأحاديث كلها ويقول: نؤمن بانها حق وان ظاهرها غير مراد ولها معان تليق بها قال: وهذا مذهب جمهور السلف وهو احوط وأسلم الى آخر كلامه. فراجعه في شرح صحيح مسلم وهو مطبوع في هامش شرحي البخاري وما نقلناه عنه هنا موجود في ص18 من الجزء 12 من الشرح في باب النهي عن ضرب الوجه، ونقل القسطلاني نحوه في: 10/491 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري. ثم قال: وهذا اسلم قلت: هذا بناء منهم على صحة هذه الاحاديث وهيهات ذلك ـ وان اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ـ.
أن يكون عرضه سبعة عشر ذراعاً وسبع الذراع، واذا كان عرضه سبعة اذرع يجب ان يكون طوله اربعة وعشرين ذراعا ونصف الذراع لأن عرض الانسان مع استواء خلقه بقدر سبعي طوله فما بال أبي هريرة يقول طوله ستون ذراعاً في سبعة اذرع عرضا؟ فهل كان آدم غير متناسب في خلقته مشوهاً في تركيبه؟ كلا! بل قال الله تعالى وهو اصدق القائلين (لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم).
(ثانيهما): ان تحية السلام انما شرعت في دين الاسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله (1) ما حسدكم اليهود على شئ كما حسدوكم على السلام، فلولا اختصاصه بهذه الأمة ما اختصوهم بالحسد عليه فما بال أبي هريرة يقول في هذا الحديث: فلما خلق الله آدم قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك؟ وما رأى أولى النظر في هذا الخبر!؟ وماذا يقولون في قول أبي هريرة: فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن؟!.
2ـ رؤية الله يوم القيامة بالعين الباصرة في صور مختلفة
أخرج الشيخان (2) بالاسناد الى أبي هريرة قال: قال أناس: يارسول الله
____________
(1) فيما أخرجه ابن ماجة في صحيحه وصحيحه ابن خزيمة بالاسناد إلى عائشة مرفوعاً ونقله القسطلاني في: 10/492 من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري أثناء شرح حديث أبي هريرة هذا.
(2) أما البخاري فأخرجه في آخر: 4/92 من صحيحه في باب الصراط جسر جهنم من كتاب الرقاق، واخرجه أيضاَ في: 1/100 من صحيحه في باب فضل السجود من كتاب الاذان ـ وأما مسلم فأخرجه ـ في ص86 من الجزء الاول من صحيحه في باب اثبات رؤية المؤمنين ربهم الآخرة وأخرجه أحمد في ص275 من الجزء الثاني من مسنده.
هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا: لا يا رسول الله؛ قال، فانكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه؛ فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون! فيقول انا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فاذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون!! فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فيتبعونه! ويضرب جسر جهنم (قال): قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأكون أول من يجيز (1) ودعاء الرسل يومئذ: أللهم سلم سلم؛ وبه كلا ليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم قدر عظمتها إلا الله فتخطف الناس باعمالهم منهم الموبق بعمله؛ ومنهم المخردل ثم ينجو حتى اذا فرغ الله من الفضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله الا الله أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود فيخرجونهم قد امتحشوا فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل؛ ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، فيقول: يا ربي قشبني ويحها وأحرقني ذكاؤها فاصرف وجهي عن النار فلا يزال يدعو الله، فيقول: لعلك إن اعطيتك أن تسألني غيره فيقول: لا وعزتك لا اسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: ياربي قربني الجنة، فيقول: أليس قد زعمت ان لا تسألني غيره؟ ويلك يابن آدم ما أغدرك، فلا
____________
(1) يجيز لغة في يجوز يقال: جاز وأجاز بمعنى واحد، كذا قال في النهاية الاثيرية.
يزال يدعو فيقول: لعلي ان أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا اسألك غيره فيعطي الله من عهود ومواثيق ان لا يسأله غيره فيقربه الى باب الجنة فاذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله ان يسكت ثم يقول: ربي ادخلني الجنة فيقول له: أدريس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك يا بن آدم ما اغدرك فيقول: ياربي لا تجعلني اشقى خلقك فلا يزال يدعو حتى يضحك (الله) !؟ فاذا ضحك منه اذن له بالدخول فيها فإذا دخل قيل تمن من كذا فيتمنى. ثم يقال له: تمن من كذا فيتمنى حتى تنقطع به الأماني فيقول له هذا لك ومثله معه. الحديث.
وقد أخرجه مسلم بسند آخر (1) ومما جاء فيه عنده: ان الله عز وجل يأتي يوم القيامة هذه الأمة وفيها البر والفاجر وهو في ادنى صورة من التي رأوه فيها فيقول لهم: انا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك! فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق! فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاه نفسه الا إذن الله له بالسجود ولا يبقى من يسجد اتقاء ورثاء الا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما اراد ان يسجد خر على قفاء ثم يرفعون رؤوسهم فيرون الله وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال: انا ربكم! فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم الحديث، وهو طويل وقد اختصره البخاري في تفسير سورة نون من صحيحه (2) ولفظه ثمة: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساق! فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً أ هـ.
وهذا حديث مهول الفت اليه ارباب العقول فهل يجوز عندهم ان تكون
____________
(1) في ص88 والتي بعدها من الجزء الأول من صحيحه في باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة من أواخر كتاب الإيمان.
(2) ص138 من جزئه الثاني.
لله صور مختلفة ينكرون بعضها ويعرفون البعض الآخر؟ وهل يرون ان لله ساقاً تكون آية وعلامة عليه؟ وبأي شئ كانت ساقه علامة دون غيرها من الاعضاء؟ وهل تجوز عليه الحركة والانتقال فيأتيهم اولا وثانياً وهل يجوز عليه الضحك؟ واي وزن لهذا الكلام؟ وهل يشبه كلام رسول الله صلى الله عليه وآله؟ لا والذي بعثه بالحق (رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
كلمة في الرؤية
أما رؤية الله عز وجل بالعين الباصرة فقد أجمع الجمهور على امكانها في الدنيا والآخرة، وأجمعوا أيضاً على وقوعها في الآخرة؛ وان المؤمنين والمؤمنات سيرونه يوم القيامة بأبصارهم، وان الكافرين والكافرات لا يرونه أبداً، واكثر هؤلاء على أن الرؤية لاتقع في الدنيا، وربما قال بعضهم بوقوعها أيضاً، ثم ان المجسمة من هؤلاء زعموا أنهم سيرونه يوم القيامة باتصال الأشعة من أبصارهم بجسمه ماثلا أمامهم فينظرون اليه كما ينظر بعضهم إلى بعض لا يمارون فيه كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب على ما يقتضيه حديث أبي هريرة وقد خالف هؤلاء حكم العقل والنقل؛ وخرقوا اجماع الامة بأسرها، وخرجوا عليها. ومرقوا من الدين، وخالفوا ما علم منه بحكم الضرورة الاسلامية. فلا كلام لنا معهم.
وأما غيرهم من الجمهور وهم المنزهون من الأشعرية فقد قالوا بأن الرؤية قوة سيجعلها الله تعالى يوم القيامة بابصار المؤمنين والمؤمنات خاصة لا تكون باتصال الأشعة، ولا بمقابلة المرئي ولا بتخبزه ولا بتكيفه، ولا، ولافهي على غير الرؤية المعهودة للناس، بل هي رؤية خاصة تقع من أبصار المؤمنين والمؤمنات على الله عز وجل لا كيف فيها ولا جهة من الجهات الست.
وهذا محال لا يعقل، ولا يمكن أن يتصور متصور إلا اذا اختص الله المؤمنين في الدار الآخرة ببصر آخر لاتكون فيه خواص الأبصار المعهودة في الحياة الدنيا على وجه تكون فيه الرؤية البصرية كالرؤية القلبية وهذا خروج عن محل النزاع في ظاهر الحال، ولعل النزاع بيننا وبينهم في الواقع ونفس الأمر لفظي.
3 ـ لا تمتلئ النار حتى يضع الله تعالى رجله فيها
وأخرج الشيخان من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أو ثرت بالمتكبرين والمتجبرين!. وقالت الجنة: مالي لايدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطتهم قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار إنما أنت عذاب اعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها الى بعض الحديث (1).
إن أبا هريرة كلما أزداد مثاله زاده الله رعالة (2) رأى ان جهنم أوسع من أن تمتلئ بالعصاة وان الله عز وجل أخبر بامتلائها إذ قال (فالحق والحق أقول لاملأن جهنم) فوقف أبو هريرة أمام هذين الأمرين وقفة الحائر يفكر في الجمع بينهما حتى انتهى به الفكر الى حل المشكلة بادخال رجل الله في جهنم لأن رجل الله تعالى ـ على رأي أبي هريرة ـ لابد أن تكون أفخم وأعظم من جهنم
____________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة ق: 3/127 من صحيحه وأخرجه مسلم في: 2/482 من صحيحه في باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء أخرجه من خمسة طرق عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة آخر: 2/314 من مسنده.
(2) مثل يضرب لمن كان كلما أزداد رزقاً زاده الله حمقاً.
مهما كانت جهنم متسعة الاكناف، ومهما كانت متباعدة الأطراف، وأبو هريرة كيس ثقف لقف، فلا غرو ان جمع بين المتناقضات؛ لكن فاته تدبر قوله تعالى اذ (قال فالحقّ (1) والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ولو تدبر الآية لاعتقل لسانه وانصرف يتعثر بنمرته، فانها نص في أن امتلاءها لايكون الا منه، أي من جنسه وهم الشياطين وممن تبعه من الناس كافة.
وعلى كل: فان هذا الحديث محال ممتنع بحكم العقل والشرع، وهل يؤمن مسلم ينزه الله تعالى بأن لله رجلا؟. وهل يصدق عاقل بأنه يضعها في جهنم لتمتلئ بها؟! وما الحكمة بذلك؟! وأي وزن لهذا الكلام البارد!؟ وبأي لسان تتحاج النار والجنة!؟ وبأي حواسهما ادركتا ما ادركتاه وعرفتا من دخلهما وأي فضل للمتجبرين والمتكبرين لتفخربهم النار وهم يومئذ في اسفل سافلين؟ وكيف تظن الجنة ان الفائزين بها من سقطة الناس وهم من الذين انعم الله عليهم بين نبي وصديق وشهيد وصالح ما أظن الجنة والنار قد بلغ بهما الجهل والحمق والخرف الى هذه الغاية؟.
4 ـ نزول ربه كل ليلة إلى سماء الدنيا تعالى الله
ـ أخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغرو أبي سلمة ابن عبد الرحمان عن أبي هريرة مرفوعاً قال: ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا حين تبقى الثلث الاخير يقول: من يدعوني فأستجيب له الحديث (2).
تعالى الله عن النزول والصعود والمجئ والذهاب والحركة والانتقال
____________
(1) فالحق مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: فالحق قسمى أو يميني لأملأن جهنم والحق أقول أعتراض بين المقسم به والمقسم عليه معناه: لا أقول إلا الحق.
(2) أخرجه البخاري في باب الدعاء نصف الليل: 4/68 من صحيحه في كتاب الدعوات، واخرجه أيضاً في آخر: 1/136 من صحيحه في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل في كتاب الكسوف، وأخرجه مسلم في: 1/283 من صحيحه في باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل وأخرجه احمد بن حنبل من حديث ابي هريرة في: 2/258 من مسنده.
وسائر العوارض والحوادث، وقد كان هذا الحديث والثلاثة التي قبله مصدراً للتجسيم في الاسلام، كما ظهر في عصر التعقيد الفكري. وكان من الحنابلة بسببها انواع من البدع والاضاليل، ولا سيما ابن تيمية الذي قام على منبر الجامع الاموي في دمشق يوم الجمعة خطيباً، فقال اثناء اضاليله: ان الله ينزل الى سماء الدنيا كنز ولي هذا ونزل درجة من درج المنبر يريهم نزول الله تعالى نزولا حقيقاً بكل ما للنزول من لوازم كالحركة والانتقال من العالي الى السافل، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وانكر عليه ما قال؛ فقامت العامة الى هذا الفقيه وضربوه بالايدي والنعال ضرباً كثيراً فسقطت عمامته واحتملوه الى قاضي الحنابلة يومئذ في دمشق واسمه عز الدين ابن مسلم فأمر بسجنه، وعزره بعد ذلك، الى آخر ما كان في هذه الواقعة (1).
5 ـ نقض سليمان حكم أبيه داود
أخرج الشيخان (2) بالاسناد الى أبي هريرة مرفوعاً قال: كانت امرأتان
____________
(1) التي حضرها الرحالة ابن بطوطة بنفسه ورآها بعينه وسجلها في: 1/57 من رحلته عند ذكره قضاة دمشق فراجع.
(2) اما البخاري فقد أخرجه في اول: 2/166 من صحيحه في باب قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه اواب) من كتاب بدء الخلق واما مسلم فاخرجه في: 2/57 من صحيحه في باب بيان اختلاف المجتهدين من كتاب الأقضية، وأخرجه احمد بن حنبل من حديث ابي هريرة في: 2/322 من مسنده.
معهما ابناهما جاء فذهب بابن احداهما فقالت صاحبتها: انما ذهب بابنك وقالت الاخرى: انما ذهب بابنك، فتحا كمتا الى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود عليه السلام فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين اشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة والله ان سمعت بالسكين الا يومئذ وما كنا نقول الا المدية أ هـ في هذا الحديث نظر من وجوه:
(أحدها): ان داود عليه السلام خليفة الله في ارضه، ونبيه المرسل الى عباده وقد أمره الله ان يحكم بين الناس بالحق فقال عز من قائل: (يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق) وقد أثنى عليه في الذكر الحكيم والفرقان العظيم فقال عز من قائل: (واذكر عبدنا داود ذا الايد انه اواب انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له اواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) الى ان قال عز سلطانه: (وان له عندنا لزلفى وحسن مآب) وقال عز وعلا: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) فداود ممن فضله الله بزبوره فهو معصوم من الخطأ ولا سيما في القضاء والحكم بما أنزل الله تعالى: (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون) وولده سليمان وارث علمه وحكمه؛ وهو نبي معصوم أيضاً فكيف ينقض حكم ابيه وهو أعرف الناس بعصمته؟ ولو ان حاكماً في هذه الايام من قضاة الشرع جامعاً لشرائط الحكومة الشرعية حكم بين اثنين ترافعا اليه لوجب على سائر حكام الشرع اعتبار حكمه بدون توقف الا مع العلم بخطئه والخطأ هنا مأمون لوجوب عصمة الأنبياء، فلا يجوز على سليمان وهو من أنبياء الله ان ينقض حكم أبيه الذي ارتضاه الله ورسولا لعباده وحاكما بينهم لان نقضه رد على الله تعالى وسوء ادب مع أبيه بل عقوق له.
(ثانيها): ان هذا الحديث صريح بتناقض الحكمين الصادرين من هذين
النبيين وذلك مما يوجب القطع بخطأ أحدهما لو كان الحديث صحيحاً والخطأ ممتنع على الأنبياء ولا سيما في مقام الحكم بما أنزل الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون).
(ثالثها): ظاهر هذا الحديث ان داود عليه السلام حكم بالولد للكبرى بدون بينة ولا مستند غير أنّها كبرى وهذا لا يصدر إلا من جاهل بالموازين الشرعية بعيد عن قوانين المحاكمات تعالى الله وتنزهت انبياؤه عن ذلك.
(رابعها): ان هذا الحديث صريح في ان سليمان انما حكم به للصغرى بمجرد اشفاقها عليه من الشق بالسكين وهذا بمجرده لا يكون ميزاناً لحكمه، ولا سيما بعد اقرارها به للكبرى؛ وبعد حكم أبيه بذلك.
(خامسها): لا ينقضي والله عجبي ممن يسعه تصديق أبي هريرة في قوله: والله ان سمعت بالسكين الا يومئذ وما كنا نقول الا المدية، وى أن السكين اكثر دوراناً في كلام العرب من المدية بكثير! وما اظن أحداً منهم يجهل معنى السكين بخلاف المدية؛ فان اكثر العامة لا يعرفونها وى كأن أبا هريرة لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى في سورة يوسف وهي مكية: (وآتت كل واحدة منهن سكيناً) (1).
وكأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين (2).
____________
(1) سورة يوسف كلها نزلت في مكة إلا اربع آيات منها نزلت في المدينة ثلاث من اولها والرابعة: (لقد كان يوسف وأخواته آيات للسائلين) وابو هريرة إنما اسلم بعد نزولها بأكثر من سبع سنين وكانت محفوظة يرتلها المسلمون آناء الليل واطراف النهار، وقد سمعهم يقرؤونها في صلواتهم وخلواتهم وفي كثير من اوقاتهم.
(2) بلى قد رواه وأخرجه عنه الامام احمد في: 2/230 من مسنده من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن العلاء عن ابيه عن ابي هريرة مرفوعاً.
تنبيه
ظن أبو هريرة أن داود وسليمان (إذ يحكمان في الحرث) كانا متناقضين في الحكم فهان عليه تزوير تلك القصة الخيالية ولم يدر أنهما انما كانا على الصواب وان حكم كل منهما وعلمه انما كان من لدن ربّ الارباب.
ومجمل قضيتهما أن غنماً أصابت في الليل حرثاً وكان كرماً قد بدت عناقيده (1) فاكلته فترافع صاحب الحرث وأصحاب الغنم الى داود عليه السلام فكان بمقتضى شرعه الموحي اليه من الله تعالى أن يحكم بالغنم لصاحب الحرث لأن قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث، فلما أراد أن يحكم بذلك نسخه الله تعالى على لسان سليمان وكان شريكه في النبوة فأفهمه الله أن الحكم أصبح في مثل تلك الواقعة أن تدفع الغنم الى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأُصوافها ويدفع الحرث الى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود كهيئته قبل عيث الغنم فيه ثم يترادان.
جعل الله في هذا الحكم انتفاع صاحب الحرث بالغنم بازاء ما فاته من الانتفاع بحرثه من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم واوجب على أصحاب الغنم أن يعملوا في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان؛ فلما أفهم الله عز وجل سليمان ذلك رفعه الى أبيه فعزم أبوه عليه ليحكمن بما أنزل الله عليه فحكم به.
هذا ملخص ما كان يومئذ بينهما لا تناقص فيه ولا اختلاف شأن كل حكمين عن الله تعالى نسخ ثانيهما الاول.
وأنا أتلو عليك من محكمات الفرقان ما يلمسك هذه الحقيقة قال تبارك وتعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث اذ نفشت (2) فيه غنم القوم وكنا
____________
(1) فيما روى عن الامامين الباقرين الصادق أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
(2) النفش هو الانتشار في الليل.
لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان (1) وكلا آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) فانظر الى قوله عز اسمه وكلا آتينا حكماً وعلماً تجده نصاً في انهما جميعاً على الصواب، وان حكم كل منهما وعلمه انما هو من لدن رب الارباب.
لكن من رأي أبي هريرة ان أنبياء الله يجوز عليهم الحكم بمجرد الاجتهاد لذلك جوز عليهم الخطأ فيما يحكمون به كسائر المجتهدين.
(ما قدروا الله حق قدره) إذ جوزوا الاجتهاد والعمل بالظن على مهابط وحي الله، ومختلف ملائكته، وجوزوا الخطأ عليهم حتى في القضاء الشرعي والحكم عن الله عز وجل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون).
ولو ثابت اليهم أحلامهم لعلموا أن العمل بالاجتهاد واستفراغ الوسع محال على الأنبياء لانه لا يوصل غالباً إلا الى الظن، والأنبياء لا يعولون عليه لنمكنهم من العلم بسبب الوحي، وانما يحوز ذلك لمجتدي الأمة لأنه أقصى ما يتمكنون منه.
ولو جاز الاجتهاد على الأنبياء لجاز لغيرهم من المجتهدين أن يعارضوهم فيما يصدعون به من أحكام الله وحينئذ لاتبقى للنبوة منزلتها؛ ولا للنبيين الشأن لا يلحقه لاحق ولا يطمع من غيرهم فيه طائع، وهل يجرأ مؤمن من المجتهدين أن يعارض النبي وينقض حكمه صلى الله عليه وآله كلا! انه الكفر بالاجماع.
على أن القرآن العظيم والذكر الحكيم صريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعمل بالوحي: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وهكذا سائر الانبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
____________
(1) أي ففهمنا هذه الحكومة سليمان فكانت ناسخة للحكومة التي كان الله من ذي قبل فهمها داود عليها السلام.
6 ـ طواف سليمان بمائة امرأة في ليلة
أخرج الشيخان بالاسناد الى أبي هريرة مرفوعاً قال: سليمان ابن داود لأطوفنّ الليلة بمائة أمرأة! تلد كل غلاماً! يقاتل في سبيل الله! فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل!! فأطاف بهن! فلم تلد إلا امرأة نصف انسان! (قال أبو هريرة): قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال ان شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته.
(قلت): وفي هذا أيضاً نظر من وجوه:ـ
(أحدها): ان القوة البشرية لتضعف عن الطواف بهن في ليلة واحدة مهما كان الانسان قوياً، فما ذكره أبو هريرة من طواف سليمان عليه السلام بهن مخالف لنواميس الطبيعة لايمكن عادة وقوعه أبداً.
(ثانيها): انه لا يجوز على نبي الله تعالى سليمان عليه السلام أن يترك التعليق على المشيئة، ولا سيما بعد تنبيه الملك إياه إلى ذلك. وما يمنعه من قول ان شاء الله؟ وهو من الدعاة إلى الله والأدلاء عليه، وانما يتركها الغافلون عن الله عز وجل، الجاهلون بأن الأمور كلها بيده فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن، وحاشا أنبياء الله عن غفلة الجاهلين إنهم عليهم السلام لفوق مايظن المخرّفون.
(ثالثها): أن أبي هريرة قد اضطرب في عدة نساء سليمان، فتارة روى انهن مائة امرأة كما سمعت (1)، وتارة روى انهن تسعون (2)، وتارة روى انهن
____________
(1) وقد أخرجه البخاري في باب قول الرجل: لأطواف الليلة على نسائي في آخر: 3/176 من صحيحه في الورقة الأخيرة من كتاب النكاح، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة: 2/229، 270 من مسنده.
(2) كما أخرجه البخاري عنه في: 4/107 من صحيحه في باب الاستثناء في الايمان من كتاب الايمان والنذور.
سبعون (1)، وتارة روى انهن ستون (2) وهذه الروايات كلها في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد فما أدري مايقوله فيها المعتذرون عن هذا الرجل؟ أيقولون ان هذه الحادثة تكررت من سليمان مع زوجاته؟ وكن مرة مائة ومرة كن تسعين ومرة سبعين وأخرى ستين: وفي كل مرة ينبهه الملك فلا يقول: ما اظنهم يقولون بهذا ولو قالوا: قد اتسع الخرق على الراقع؛ لكان اولى بهم وفي المثل السائر: ليس لكذوب حافظة.
7 ـ لطم موسى عين ملك الموت
أخرج الشيخان صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة قال: جاء ملك الموت الى موسى عليهما السلام فقال له: أحب ربك. قال فلطم موسى عين ملك الموت فقفأها: قال: فرجع الملك الى الله تعالى فقال: أنك ارسلتني الى عبد لك لا يريد الموت ففقأ عيني. قال فرد الله اليه عينه وقال ارجع الى عبدي فقل: الحياة تريد فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور: فما توارت بيدك من شعرة فانك تعيش بها سنة الحديث. (3).
____________
(1) كما أخرجه البخاري بالاسناد اليه في: 2/165 من صحيحه في باب قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه اواب) من كتاب بدء الخلق.
(2) كما أخرجه مسلم بالاسناد اليه في باب الاستثناء من كتاب الايمان ـ: 2/23 من صحيحه، وأخرج مسلم أيضاً في ذلك الباب نفسه حديثاً من طريق آخر عن ابي هريرة انهن سبعون واخرج فيه من طريق ثالث انهن تسعون فراجع.
(3) اوردناه بلفظ مسلم وقد اخرجه ـ عن ابي هريرة بطرق كثيرة ـ في باب فضائل موسى من كتاب الفضائل من صحيحه: 2/309، وأخرجه البخاري في باب وفاة موسى من كتاب بدء الخلق بعد حديث الخضر بأقل من صفحتيين من صحيحه فراجع: 2/163 واخرجه أيضاً في باب من احب الدفن في الأرض المقدسة من ابواب الجنائز من صحيحه فراجع: 1/158.
وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة في مسنده (1) وفيه: أن ملك الموت كان يأتى الناس عياناً: قال: فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه الحديث، وأخرجه ابن جرير الطبري في الجزء الأول من تاريخه (2) عن أبي هريرة ولفظه عنه: أن ملك الموت كان ياتي الناس عياناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه وفي آخره ان ملك الموت جاء إلى الناس خفياً بعد موت موسى (3).
وأنت ترى ما فيه مما لا يجوز على الله تعالى، ولا على انبيائه. ولا على ملائكته، أبليق بالحق تبارك وتعالى ان يصطفي من عباده من يبطش على الغضب بطش الجبارين؟؟، ويوقع بأسه حتى في ملائكة الله المقربين ويعمل عمل المتمردين؟: ويكره الموت كراهة الجاهلين؟: وكيف يجوز ذلك على موسى؟ وقد اختاره الله لرسالته، وائتمنه على وحيه، وآثره بمناجانه، وجعله من سادة رسله، وكيف يكره الموت هذا الكره مع شرف مقامه؟ ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه؟ وما ذنب ملك الموت عليه السلام؟ وانما هو رسول الله اليه. وبما استحق الضرب والمثلة فيه بقلع عينه؟ وما جاء إلا عن الله وما قال له: سوى أجب ربك أيجوز على أولي العزم من الرسل اهانة الكروبيين من الملائكة؟ وضربهم حين يبلغونهم رسالات الله وأوامره عز وجل!؟. تعالى الله وتعالت أنبياؤه وملائكته عن ذلك علواً كبيراً.
ونحن لم برئنا من أصحاب الرس، وفرعون موسى، وأبي جهل، وأمثالهم ولعناهم بكرة وأصيلا؟. أليس ذلك لأنهم آذوا رسل الله حين جاؤوهم بأوامره
____________
(1): 2/315.
(2) وذلك حيث ذكر وفاة موسى في كتابه تاريخ الامم والملوك.
(3) لو ان ملك الموت كان يأتي عياناً قبل وفاة موسى لطفحت به الاخبار واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار فما بال المحدثين والمؤرخين واهل الاخبار من جميع الامم اغفلوا هذا الخبر لو كان له اثر، وما بال القصاصين والمخرفين ما حام خيالهم حوله، فهل تركوا الامتياز به لأبي هريرة؟
فكيف نجوز مثل فعلهم على انبياء الله وصفوته من عباده؟ حاشا لله ان هذا لبهتان عظيم.
ثم إن من المعلوم أن قوة البشر بأسرهم، بل قوة جميع الحيوانات منذ خلقها الله تعالى إلى يوم القيامة لا تثبت امام قوة ملك الموت فكيف ـ والحال هذه ـ تمكن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه؟ وهلا دفعه الملك عن نفسه؟ مع قدرته على ازهاق روحه، وكونه مأموراً عن الله تعالى بذلك.
ومتى كان للملك عين يجوز أن تففقأ؟!.
ولا تنس تضييع حق الملك وذهاب عينه. ولطمته هدراً، وإذ لم يؤمر الملك من الله بأن يقتص من موسى صاحب التوراة التي كتب الله فيها (ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) (1) ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا بل اكرمه إذ خيره بسببه بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثور.
وما ادري والله ما الحكمة في ذكره شعر الثور بالخصوص؟!.
أما وعزة الحق، وشرف الصدق وعلوهما على الباطل والافك لقد حمّل هذا الرجل اولياءه ما لا طاقة لهم به. وكلفهم باحاديثه هذه بما لا تحتمله عقولهم ابداً ولا سيما قوله في هذا الحديث: إن ملك الموت قبل وفاة موسى كان يأتي الناس عياناً وانما جاءهم خفياً بعد موت موسى نعوذ بالله من سبات العقل وخطل القول والفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
____________
(1) إشاره الى الآية 45 من سورة المائدة، وقد وجدنا في الفقرة 23 من الاصحاح 21 من اصحاحات الخروج، من التوراة الموجودة في أيدي اليهود والنصارى في هذه الايام ما هذا لفظه: ان حصلت اذية تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض.
8 ـ فرار الحجر بثياب موسى وعدو موسى خلفه ونظر بني اسرائيل اليه مكشوفاً
أخرج الشيخان في صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة قال: كان بنو اسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى ان يغتسل معنا إلا أنه آدر (أي ذو فتق) قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه! فجمع موسى بأثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى نظر بنو اسرائيل الى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر ضرباً؟ فوالله ان بالحجر ندباً (1) ستة أو سبعة الحديث (2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن هذه الواقعة هي التي أشار الله اليها بقوله عز من قائل: (يا ايها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) أ هـ.
وأنت ترى ما في هذا الحديث من المحال الممتنع عقلا فانه لايجوز تشهير كليم الله عليه السلام بابداء سوأته على رؤوس الأشهاد من قومه لأن ذلك ينقصه ويسقط من مقامه، ولاسيما اذا رأوه يشتد عارياً ينادي الحجر وهو لا يسمع ولا يبصر: ثوبي حجر ثوبي حجر ثم يقف عليه وهو عاري أمام الناس فيضربه
____________
(1) الندب بوزن جمل اثر الجراح اذا لم يرتفع عن الجلد.
(2) اوردناه بلفظ مسلم إذ أخرجه عن أبي هريرة بطرق كثيرة فراجع باب فضائل موسى: 2/308 من صحيحه واخرجه البخاري في الباب الذي هو بعد حديث الخضر من صحيحه: 2/162 وفي: 1/42 في باب من اغتسل عريانا من كتاب الغسل، واخرجه احمد من حديث أبي هريرة من طرق كثيرة فراجع: 2/315 من مسنده.
والناس تنظر اليه مكشوف العورة كالمجنون!
وهذه الحركة لو صحت فانما هي من فعل الله تعالى فكيف يغضب منها كليم الله فيعاقب الحجر عليها؟! وما هو إلا مقسور على الحركة وأي أثر لعقوبة الحجر؟؟.
ثم ان هربه بثياب موسى عليه السلام لا يبيح له ابداء عورته، وهتك نفسه بذلك وقد كان في امكانه أن بيقى في مكان حتى يؤتى بثيابه أو بساتر غيرها كما يفعله كل ذي لب اذا ابتلى بمثل هذه القصة.
على أن هرب الحجر من المعجزات وخوارق العادات التي لا تكون الا في مقام التحدي كمقام انتقال الشجرة من مكة المعظمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اقترح عليه المشركون ذلك فنقلها الله عز وجل من مكانها تصديقاً لدعوته وتثيبيتاً لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ومن المعلوم أن مقام موسى عليه السلام وهو يغتسل لم يكن مقام تحد وتعجيز فلا تقع فيه المعجزات وخوارق العادات ولا سيما اذا ترتب عليها فضيحة نبي الله بابداء سوأته للملأ من قومه على وجه يستخف به كل من رآه وكل من سمع بخبره هذا واما براءته من الادرة فليست من الامور التي يباح في سبيلها هتكه وتشهيره ولاهي من المهمات التي تصدر بسببها الآيات اذ يمكن العلم ببراءته منها بسبب اطلاع نسائه عليه؛ واخبارهن بحقيقة حاله.
ولو فرض ابتلاؤه بالادرة فأي بأس عليه بذلك؟. وقد اصيب شعيب عليه السلام ببصره وايوب عليهم السلام بجسمه وانبياء الله كافة تمرضوا وماتوا، ولا يجب انتفاء مثل هذه العوارض عن انبياء الله ورسله، ولاسيما اذا كانت مستورة عن الناس كالادرة، نعم لايجوز عليهم ما يوجب نقصاً في مداركهم أو في مروءتهم أو يوجب نفرة الناس عنهم واستخفافهم بهم والادرة ليست في شئ من ذلك.
على ان القول بأن بني اسرائيل كانوا يظنون ان في موسى ادرة لم ينقل الا عن أبي هريرة.